إعداد: محمد ناصر
من المعروف عن الأنظمة الديكتاتورية عشقها لخنق الحريات ودأبها على وأد كل صوت مخالف، وبالدرجة الأولى تسخير اعلام البلد لخدمتها وخدمة أغراضها ومصالحها فلا رأي يُكتب ولا تصريح ينشر الا بعد موافقته لسياسة النظام الحاكم ومطابقته له.
فحرية الشعب التونسي التي صنعها بيديه اليوم أراد رئيسهم المخلوع عام 1990 وبكل جهده ان يحرم شعبا بكامله منها ومن وطنهم وان يزيل مكانه من على الخارطة بعد تواطؤه مع رئيس النظام العراقي المقبور صدام حسين وتأييده الأعمى لاحتلال الكويت.
صحافة وإعلام نظام زين العابدين لم تترك موبقة الا وكتبتها ولم تفوّت كذبة الا وأبرزتها فنجح النظام في مبتغاه بحشد التظاهرات في تونس معارضة لتحرير الكويت وتأييدا لبقاء الاحتلال.
فمع الأيام الأولى لتسنم شعب تونس الحرية نسترجع الطعنات التي أصابتنا من نظام بن علي بمحاولاته الحثيثة لنصرة الظالم ولمحاولته طمس هوية وطننا.
فقد برر زين العابدين بن علي عدم اشتراكه في القمة العربية الطارئة التي عقدت لمناقشة الاحتلال العراقي بالقول: ان وجود قوات أجنبية وأميركية في السعودية لا يخدم مصالح او امن المنطقة، وسيجعل الصراع في الخليج اكثر تعقيدا، واكثر صعوبة على الحل.
وانحاز زين العابدين بن علي الى العراق، وتعمد عدم الذهاب الى قمة القاهرة لأن صدام أقنعه بان قرارا سيصدر بعودة الجامعة مرة اخرى الى تونس، وان الدول المؤيدة له او بالأحرى رجالاته سيقومون بدورهم ليس لجهة افشال القمة العربية الطارئة بالقاهرة، بل باصدار قرار يقضي بنقل مقر الجامعة العربية مرة اخرى من القاهرة الى تونس، وكان الرئيس زين العابدين بن علي رحب مرارا بعقد القمة الطارئة، وفوجئ الرئيس المصري حسني مبارك بعدها بأنه الزعيم العربي الوحيد الذي قاطع القمة العربية.
ودعا بن علي قادة ورؤساء الدول العربية والاسلامية للزحف الى مجلس الأمن للضغط عليه حتى لا يصدر قرارا باستخدام القوة لاجبار المقبور صدام حسين وقواته على الانسحاب من الكويت وليعبروا عن استنكارهم لتطورات حرب تحرير الكويت.
ووصف بن علي ما يحدث في منطقة الخليج من حرب لتحرير الكويت، بأنه يتنافى مع مبادئ السلام وقيم الانسانية عقب ما جاء في دعوة الزحف على لسان الرئيس، وقف وزير خارجيته الحبيب بولعراس ليعلن ان ما يجري في الوقت الحاضر في الخليج ليس حربا لتحرير الكويت، وانما هي حرب لتدمير العراق وارهاب شعبه وتحطيم كل قدراته الاقتصادية، وكأن ما فعله العراق ـ البادئ بالعدوان ـ في الكويت لم يكن تحطيما وتخريبا لقدرات الكويت الاقتصادية.
وأكد رئيس الوزراء التونسي في السادس والعشرين من يناير تضامن الشعب التونسي مع شقيقه الشعب العراقي، زاعما ان ما تقوم به دول التحالف يهدف فقط لإضعاف العراق.
وكان زين العابدين بن علي على اتصال دائم ومستمر مع رؤساء الدول المشابهة لموقفه المخزي وذلك لتنسيق المبادرات والمساعي الكفيلة بعرقلة حرب تحرير الكويت وإطالة عمر الاحتلال العراقي القذر لها.
واستمر «غسيل الدماغ» الذي كان يقوم به اعلام نظام بن علي من مقالات وأخبار وكذب ودجل وتلفيق فكتب احد التونسيين متحديا من يستطيع ان يثبت ان الكويت لم تكن جزءا من ولاية البصرة، وان شعب الكويت جزء من شعب البصرة.
وتساءل احد كتّاب بن علي هو د.علي الحسن بكل فظاظة ايهما اهم بالنسبة للعرب مدينة الكويت التي رجعت الى امها العراق ام فلسطين التي تحتلها اسرائيل.
ونجح زين العابدين في التلاعب بمشاعر التونسيين فسارع نظام زين العابدين وبسرعة الى ربط نفسه بالموقف العراقي واصبحت لغته اكثر حدة من شارع سيطرت عليه صحافة موالية للعراق.
وكانت الادارة التونسية، تطرح مسألة الحل السياسي، واستبعاد الحرب، وكان منطقها هو دفع الأمور نحو اقرار الحل السلمي، الذي يعني بقاء قوة العراق ونفوذه مع الاحتفاظ بالكويت تحت سيطرته، وهذا يعني انه قوة اقليمية كبرى، يمكن ان تدور حولها بعض الدول والأنظمة. وكانت الحكومة التونسية سعيدة للغاية بهذا المخرج الذي هبط عليها من سماء تطورات الموقف في الخليج.
واستمر الاعلام التونسي في إظهار حقيقة توجهات نظام بن علي المنحاز للعراق والذي هاجمت صحافته الكويت حكومة وشعبا وتناست ابسط حقوق ومبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية فاستباحت احتلال الدول وتشريد الشعوب.
ولم يتوان الخطاب الاعلامي التونسي في تأكيد شرعية الاحتلال واعتبار اي محاولة لإخراج المحتل والغازي والمغتصب خيانة كبرى للامة العربية، كما قالت جريدة الشروق في 18 ديسمبر 1990 تحت عنوان الامة العربية «على بوش ان يعلم الحقيقة الاتية وهي ان العراق ليس غرينادا او بنما، ان ما قام به العراق ما هو الا دفاع عن أمنه الاقتصادي الذي هو حق مشروع للدفاع عن النفس ناهيك عن الحق التاريخي العراقي في الكويت».
ويتساءل آخر في جريدة «الشروق» قائلا: هل يتجرأ كل عربي شريف ان يقف ضد العراق اليوم بعد كل ما عاناه ومازال يعانيه من تلاعب الصهيونية العالمية وحلفائها به.
اما جريدة «الاسبوع المصور» الصادرة صباح السبت 15 ديسمبر 1990 فقد تبنت مشروعا انتحاريا يقضي بتشكيل لجان انتحارية لتكون نواة جيش فدائي يقوم بعمليات انتحارية ضد القوات الاجنبية.
ومع اقتراب الحسم وتحرير الكويت اشتعلت وسائل الاعلام التونسية غضبا لا من اجل الكويت المشرد اهلها بل من اجل المحتل دفاعا عن ممارساته ودفاعا عن اساليب قمعه ودفاعا عما نهبه من الكويت.
وقالت جريدة «حقائق» في 10 يناير 1991 «الشهر الوحيد الذي يخلو من عيد وطني في الوطن العربي هو شهر اغسطس فهل يا ترى يصبح 2 أغسطس تاريخ دخول القوات العراقية اراضي الكويت عيدا وطنيا عراقيا عربيا؟» وكتبت اخرى في افتتاحيتها «يبقى للعراق العزة التي لا يمكلها غيره، وماء الوجه الذي فقده الكثيرون وفي طليعتهم اميركا والدول الغربية بسبب انحيازها الاعمى وتكييفها الظالم للشرعية الدولية واستغلالها الحاقد لقضايا الشعوب من اجل تنفيذ مخططاتها العدوانية التي اعدت مسبقا».
ولم تكن الصحف التونسية وهي منحازة للبغي تمارس حرية الصحافة بل كانت تنقل نبضا زرعه نظام بن علي فحولت الدفة لصالح البغي والظلم عن عمد، ففيما منعت السلطات التونسية اجتماعا كويتيا محدودا سمحت بتظاهرات بالآلاف وسمحت بفتح لجان للتبرع بالدم من اجل العراق، وكأن الذين قتلوا من الكويتيين اثناء الاحتلال كان لديهم مخزون من الدم في البنوك.