روي أن معاوية بن أبي سفيان قال: لقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الاطنابة:
أبت لي همتي وأبى إبائي
وأخذ الحمد بالثمن الربيح!
وإقحامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح!
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك! تحمدي أو تستريحي
فصمد ابن أبي سفيان ليتغير اتجاه التاريخ لصالحه.. كل ذلك كان بسبب أبيات نفثها أعرابي في لحظة إبداعية.
بعد 1400 عام، يجد العرب أنفسهم على موعد آخر يلعب فيه الشعر موقفا مفصليا في تاريخهم.. يعود الشعر اليوم من خلال ثورة تونس ليبرهن على صحة القول الدارج من أن «العرب لن تترك الشعر ما لم تترك الإبل الحنين».
يبدو أن الكلمة لا تموت، فقد كان أهم ما ميز الثورة التونسية حضور كلمات شاعر تونس الشهير أبي القاسم الشابي (1909-1934)، إذ رغم اختلاف مشارب من انضووا تحت الثورة منذ انقداحها في سيدي بوزيد حتى فرار الرئيس زين العابدين بن علي، فإن أبرز ما ميزها كان زحف الجماهير على وقع قصائد الشابي.
خاصة البيت المشهور
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
وإذا كان الأديب الروسي دوستوفيسكي يقول «إن الكلمة عمل عظيم»، فإن تجليات قوتها تجددت حينما تحولت كلمات شاعر توفي قبل 80 عاما إلى أيقونة تلهب حماس الجماهير في شوارع تونس عام 2010.
فرغم حضور لافتات من قبيل «خبز وماء.. وبن علي لا» وسط المظاهرات، فإن معظم الشعارات الفصيحة أو تلك التي هتفت بها الجماهير بشكل جماعي في تجمعاتها ومظاهراتها كانت أبياتا معظمها مجتزأ من قصيدتي الشابي «إلى طغاة العالم» و«لحن الحياة».
لقد حفظت أجيال من التونسيين كلمات للشابي عن «انكسار القيد» وعايشوها في لحظات ضعفهم تحت سلطة قمعية، بل درسوها في فصول دراسية يستبطن نظامها تهافت هذه المعاني، إلا أنها استيقظت فجأة في نفوسهم متدفقة بالمعاني، ملتحفة آمالا جديدة كأنهم يكتشفونها لأول مرة.
وكانت أبرز الشعارات التي زينت شوارع تونس لأسابيع أبيات مجتزأة من قصائد من قبيل قول الشابي:
ألا أيها الظالم المستبد
حبيب الظلام، عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف
وكفك مخضوبة من دماه
وسرت تشوه سحر الوجود
وتبذر شوك الأسى في رباه
اللافت هو مزاوجة الشابي بين الوصف الدقيق لسلوك المستبد ـ كما رأينا في الأبيات السابقة ـ وتأكيده على حتمية مصرعه كما في الأبيات التالية:
رويدك! لا يخدعنك الربيع
وصحو الفضاء، وضوء الصباح
ففي الأفق الرحب هول الظلام
وقصف الرعود، وعصف الرياح
حذار فتحت الرماد اللهيب
ومن يبذر الشوك يجن الجراح
تأمل هنالك.. أنى حصدت
رؤوس الورى، وزهور الأمل
ورويت بالدم قلب التراب
وأشربته الدمع، حتى ثمل
سيجرفك السيل.. سيل الدماء
ويأكلك العاصف المشتعل
حقا، فقد جرف السيل المستبد وألقاه شرقي ضفاف البحر الأحمر غير مأسوف عليه. هذا التأكيد على حتمية مصرع المستبد قد يكون شكل رافعة ـ لا إرادية في العقل الجمعي ـ للشباب الذين عروا صدورهم في الشوارع وهم يرتلون قصائد الرجل.
إن اللحظات الكبرى في تاريخ الأمم تحتاج الى الحماسة والعاطفة، فقد قال السيناتور الأميركي ماريو كومو «إننا نخوض الانتخابات بالشعر، لكننا ندير الأمور لاحقا بالنثر»، وهي عبارة كثيفة المعنى تعني أن إقناع الناس وسوقهم نحو هدف معين لا يتأتى دون لغة محلقة واستنفار عاطفي.
يقول الشابي في قصيدة «لحن الحياة»:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
يبدو أن لحظة «إرادة كسر القيد» تحركت لحظة تحرك الكبرياء العربي بعد صفع الشرطية فايدة الحمدي لمحمد البوعزيزي. المفارقة أن الشابي يشير إلى قصة الصفع هذه:
فويل لمن لم تشقه الحياة
من صفعة العدم المنتصر!
نعم، فالاستبداد ما هو إلا عدم منتصر ينتظر لحظة رفض من الجماهير الثائرة على الضيم.
كذلك قالت لي الكائنات
وحدثني روحها المنتصر
ودمدمت الريح بين الفجاج
وبين الجبال وتحت الشجر
إذا ما طمحت إلى غاية
ركبت المنى ونسيت الحذر
ولم أتجنب وعور الشعاب
ولا كبة اللهب المستعر
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
ظلت هذه المعاني الفوارة تختمر في نفوس التونسيين إلى أن انفرجت ذات صباح من صباحات ديسمبر الماضي. وكان الترديد الآلي لشعر الشابي من قبل المتظاهرين دليلا جديدا على تعلق العربي بالشعر، وقوة الكلمة.
ها هو الشعر العربي يعود بعد أن راهن كثيرون على أنه انتهى تحت ضربات اللغات الأجنبية والمادية المتوحشة الساخرة منه.. يعود نضرا مشبعا بالثورة مطلا من ديار عقبة بن نافع هذه المرة.
وإذا كان الشعراء يستشفون الغيوب ويهيجون الشعوب، فإننا نتمنى أن تكون قصيدة الصباح الجديد التي حبرها الشابي وصفا للأيام المقبلة، أيام ما بعد الثورة التونسية:
اسكني يا جراح واسكتي يا شجون
مات عهد النواح وزمان الجنون
وأطل الصباح من وراء القرون