نزل المواطنون بالآلاف إلى الشوارع للمطالبة بالإطاحة بالحكومة، ليس هذا سردا لما حدث في القاهرة في عام 2011 بل ما نقله مراسل «رويترز» أدموند بلير لمشاهداته في السودان عام 1985. وفيما راقب بلير الأحداث في مصر تساءل ما إذا كان الانقلاب في السودان الذي كان الخطوة الأولى نحو تشكيل حكومة مدنية لم تدم سوى أربع سنوات يعطي دلائل لما سيحدث في مصر.
ويرى بلير أن البهجة التي شاهدتها في القاهرة يوم الجمعة خطوة أولى فقط وان المحتجين سيعودون لمنازلهم فقط إذا تأكدوا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولى زمام الأمر الآن سيحل النظام القديم ويساهم في قيام حكم مدني.
لقد شهد بلير سقوط الرئيس السوداني جعفر النميري عندما كان يافعا ويقطن على الطريق المؤدي إلى إذاعة ام درمان ما من مكان أفضل لمشاهدة انقلاب أثناء حدوثه..
ويتذكر: وسار ألاف من المتظاهرين إلى مبنى الإذاعة الناطقة بلسان الحكومة وهتفوا ضد النميري، وكانت حالة عدم الرضا تصاعدت بسبب الاقتصاد الذي انهار تدريجيا ليصيب الفقر الملايين.
ويروي كيف كانت الطوابير الطويلة تصطف للحصول على اسطوانات الغاز، فضلا عن نقص في البيض والسكر والطحين (الدقيق)، كان ذلك صراعا يوميا لأسرة غربية تكسب أجرا جيدا وتتضاعف المعاناة بالنسبة للسودانيين وفي تلك الفترة هوى الجنيه السوداني.
ونفد الصبر وطالب المتظاهرون بالتغيير وتدخل الجيش وتخلص من احد رجاله إذ ان النميري كان ضابطا في الجيش وصل للسلطة عام 1969، وهنا تغير السيناريو الافريقي المعتاد للانقلابات العسكرية.
فقد تعهد سوار الذهب الضابط الذي امسك بزمام السلطة بإجراء انتخابات في غضون عام، ولم يصدقه كثيرون ولكن المواطنين الذين أصابهم الإنهاك صدقوه وأوفي بتعهده.
وفي عام 1986 أجرت أكبر دولة افريقية من حيث المساحة وفي وقت تمزقها حرب أهلية بين الشمال والجنوب انتخابات تعددية، وانتقلت السلطة لحكومة مدنية، وإلى أن اندلعت الانتفاضة في تونس في يناير الماضي كانت تلك المرة الأولى التي يمكن فيها لشعب عربي أن يزعم انه غير حكومة من خلال تحرك شعبي.
ومثل السودان دفع خليط من المشاكل الاقتصادية والسياسية المصريين للنزول للشارع، وطالب المصريون في أرجاء البلاد برحيل مبارك وحملوه ونظامه مسؤولية ارتفاع الأسعار والبطالة والفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء والقمع السياسي، ويوم الجمعة حققوا ما كانوا يتصورونه مستحيلا، واظهروا انه يمكن للشعب ان يسيطر على الشوارع ويمنع النظام من الحكم، أصبح زمام القرار بأيدي الشعب وسقط مبارك، وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام الأمر، ستشهد مصر واقعا جديدا، فالانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر زورت بشكل فاضح وفاز فيها عدد قليل جدا من المعارضين، وقاطعت معظم أحزاب المعارضة الرئيسية في مصر الانتخابات.
وبدأ كثير من المصريين الذين استيقظوا على واقع جديد يتساءلون ماذا سيحدث بعد؟ هل القوات المسلحة مستعدة حقا لإعادة السلطة للمدنيين؟ هل سيسلمون مرة أخرى السلطة التي استولوا عليها في عام 1952 عندما أطاح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر و«الضباط الأحرار» بالحكم الملكي؟ هل أقوى مؤسسة في مصر والوحيدة التي نجت من الأحداث المضطربة مستعدة للجلوس في المقعد الخلفي؟ الرسالة التي يبعث بها عدد كبير من المتظاهرين واضحة «مدنية..مدنية» احد الشعارات التي رددها المتظاهرون حين بلغت أنباء تخلي مبارك عن سلطته وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام الأمر مركز الزلزال السياسي الذي اطاح بنظام الحكم في مصر.
ويقود المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي وكان عادة يجلس إلى جوار مبارك في العروض العسكرية لاستعراض قوة الجيش، ويشغل طنطاوي منصبه منذ 20 عاما.
ويأمل مصريون كثيرون ان يظهر طنطاوي انحيازه للشعب الذي كانت لديه جرأة تحدي الجهاز الأمني لمبارك، وبعد 18 يوما من الاحتجاجات لا يبدو المواطنون مستعدون لقبول المعادلة القديمة القائمة على دعم الجيش للسلطة.
وفي عام 1985 أوفى قائد عسكري في السودان التي تقع على الحدود الجنوبية لمصر بتعهده، غير ان تجربة الحكم المدني في السودان لم تستمر طويلا فبعد ثلاث سنوات من انتخابات عام 1986 عاد عسكري ليسيطر على السلطة من جديد، ما شاهدته في السودان قبل ربع قرن كان لحظة مذهلة بدا فيها ان التاريخ يكتب من جديد، وتحدى ضابط في الجيش المتشككين من السودانيين والغربيين على حد سواء وأوفى بتعهده وأقام حكما مدنيا.
ويختم الشاهد متسائلا أتساءل ما إذا كنت سأشهد تكرار نفس الشيء؟ أتساءل ما اذا كان المصريون مستعدين للعودة لمنازلهم اذا لم يف الجيش بوعده؟