الإمبراطوريات قد تسقط بسرعة البرق كما يعلمنا التاريخ، وعلى سبيل المثال فقد بدت اسبانيا، بنهاية القرن السادس عشر، قوة لا تقهر.
واليوم يحق لنا أن نسأل عما إن كانت أميركا، التي بدت القوة العظمى على الإطلاق قبل عشر سنوات، تسير على الدرب نفسه كما يقول بيتر اوبورن، كبير المعلقين السياسيين في «تليغراف» البريطانية.
لسنوات الآن ظلت أميركا عاجزة عن تمويل مشاريعها الداخلية والتزاماتها الخارجية من دون الاستعانة الهائلة بالصين منافستها الرئيسية، وهذه الأخيرة نفسها بحاجة لأن تساعد أميركا بسبب حاجتها للتصدير إلى السوق الأميركية وبالتالي تفاديها أزمة مالية خاصة بها.
وهذا ترتيب يصنف في خانة «الدمار المشترك» الذي حال دون اندلاع الحرب بين أميركا وروسيا، وأصبح من الواضح أن أميركا ستجري تغييرا سواء على مستوى المعيشة الداخلية أو في سياستها الخارجية.
وهذا مهم لأن المصالح الأميركية الدولية تتعرض لتهديد غير مسبوق، فمنذ العام 1956، عندما سحب وزير الخارجية الأميركي دعم بلاده لبريطانيا وفرنسا في أزمة السويس، صار العالم العربي واقعا تحت الهيمنة الأميركية، وفي بادئ الأمر وعدت أميركا بقبول الاستقلال وتقرير المصير لدوله، لكن هذا لم يدم طويلا لأن واشنطن اختارت ان تحكم المنطقة عبر طغاة وفرت لأنظمتهم السلاح والتدريب والمشورة.
رهان خاسر
وقد أثبتت الأسابيع الأخيرة أن حقبة هذه السياسة ـ المربحة ولكن المفتقرة للأخلاقية ـ تأتي إلى ختام، ومن المفارقات أن نظام العقيد القذافي، الذي يسفك الدماء بشكل بشع وهو يحتضر، لم يركن إلى البقاء بعيدا عن دائرة النفوذ الأميركي عندما كان قادرا على ذلك، لكنه قرر الانضمام إلى ركب جورج بوش وتوني بلير من دون أن يعلم أن هذا الركب نفسه يرقد على فراش الموت.
وفي واشنطن تظاهر اوباما بأن هذا لا يحدث وراح، بدلا عن هذا، يشدد على أن انتفاضات الشعوب العربية سعي الى الديموقراطية على الطراز الأميركي وانتصار لوسائل الاتصال الغربية الحديثة مثل «فيس بوك» و«تويتر».
ولا يظن أحد أن «تويتر» هو الوقود الذي حرك انتفاضات العرب لأن قسما هائلا منهم أمي لا يقرأ أصلا.
وقود الانتفاضات العربية هو البطالة والفقر الجماعيان والشعور بالغثيان إزاء الفرق الشاسع في توزيع الثروة وإزاء حجم الفساد الهائل الماثل أمامهم، ومن السابق للأوان أن يتكهن المرء بما سيحدث في هذه المنطقة، لكن من غير المرجح أن تنظر هذه الشعوب التي حررت وتحرر نفسها الى واشنطن ونيويورك باعتبارهما النموذج الاقتصادي المحتذى.
السؤال الكبير هو ما إن كانت أميركا ستقبل بوضعها المتدني الجديد أم ستهتاج وتركل وترفس كأي إمبراطورية أخرى تقاوم إسدال الستار على سطوتها؟ وفي هذا الصدد فإن ردة فعل البيت الأبيض حاليا لا تبشر بخير.
المشكلة الكبرى هي أن واشنطن تريد ديموقراطية بشروطها هي، وأفضل مثال لهذا معارضتها لانتخاب حكومة حماس في 2006.
وقد كان لتلك اللحظة أن تكون بارقة أمل كبير في عملية السلام بالشرق الأوسط إذ كانت تعني أن بوسع حكومة منتخبة ديموقراطيا أن تكسر دائرة العنف، لكن أميركا ترفض مجرد التعامل معها مثلما رفضت التعامل مع الإخوان المسلمين في مصر ومع تطلعات إيران الإقليمية المسنودة بالمبرر.
ويمكن تقسيم تاريخ العالم العربي منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في 1922 إلى حقبتين: الأولى الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، والثانية الإمبراطورية الأميركية الخفية بعد الحرب العالمية الأخيرة، والآن نشهد مولد حقبة ثالثة تتحرر فيها الشعوب العربية من التبعية.
ومن شبه المؤكد هو أن هذه الشعوب لن تختار السير على دروب تمهدها لها أميركا أو توصيها بها، وكل الدلائل المتوافرة الآن تشير إلى أن اوباما ووزيرة خارجيته عاجزان عن فهم هذا الأمر أو طبيعة الأحداث الجارية الآن.
خيبة
بوسع بريطانيا، بفضل خبرتها الإمبراطورية، أن تقدم لأوباما وكلينتون شيئا من النصح، لكن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، وهو حديث عهد بالسياسة الخارجية، لم يفعل شيئا من هذا سواء بالقول أو العمل الذي يحتذى.
وجولته الأخيرة على العواصم العربية بحاشية ضخمة من تجار السلاح تعني استمرار السياسات القديمة التي سادت خلال السنوات الخمسين الماضية.
وحتى خطاباته التي ألقاها على العرب ما هي إلا مجرد تكرار لخطابات سلفه توني بلير المشحونة بالمراوغة والنفاق، وهكذا يختار كاميرون بنفسه أن يسير على طريق الجهل بالمتغيرات الهائلة على المسرح السياسي الدولي.
على بريطانيا، إذن، ان تتعلم الوقوف على قدميها وأن تتحلى بالشجاعة في صداقتها مع أميركا لأن العالم يتغير بأسرع مما نتصور.
ومن جهة أخرى تهيمن الآن حالة من الإحباط على تنظيم القاعدة نتيجة لعدم قيام الجهاديين بأي دور على الإطلاق في الثورات الكبرى التي شهدها العالم العربي مؤخرا، وكانت سببا وراء مغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من البلاد، والإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، ووقوف الزعيم الليبي معمر القذافي على حافة الهاوية.
وقالت مجلة «دير شبيغل» الألمانية في هذا السياق إن التنظيم حاول مرارا وتكرارا أن يستخدم الدعاية لكي ينسب إليه الفضل في تلك التظاهرات، لكن أحدا لم يستمع إليهم.
وأوضحت أن إحدى الآثار الجانبية لتلك الثورة العربية هي أن فقاعة الجهاد قد انفجرت، على الأقل حتى الآن، وأن الثورات التي شهدتها تونس ومصر وليبيا قد أظهرت بشكل لافت ضعف الصوت الذي ينبغي أن يظهر به الجهاديون في المجتمعات العربية، على عكس الدعاية التي ظلوا ينشرونها على مدى عقود من الزمن.
وأعقبت المجلة بقولها إن هدف التنظيم الأساسي، وهو الإطاحة بالأنظمة العلمانية في العالم العربي، قد تحقق على يد آخرين، بما في ذلك جماعات من المعروف عنها عداؤها للقاعدة وحلفائها: علمانيون وطلاب ذوو توجه غربي ونساء ناشطات سياسيا وأناس يدعمون الديموقراطية والإسلاميين المعتدلين.
ولم تكن القاعدة تلك الجهة التي أثبتت أنها طليعة تلك الثورات، وإنما شباب العالم العربي العلماني المولع بالإنترنت. لكن نظرا لرفض الأشخاص الذين يعيشون في فلك زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ومعاونيه قبول تلك الحقيقة، فإن جهودا تجرى الآن بالفعل على قدم وساق لإعادة تفسير الأحداث الأخيرة في العالم العربي، ففي البداية، بدا الأمر وكأن الشبكة الإرهابية لم تجد أي كلمات تعلق من خلالها على نوبات الفوران الكبرى التي شهدتها المنطقة، لكن نسجها الآن للأحداث في الشرق الأوسط أصبح واضحا بصورة تدريجية.