ويليام فاف
جولة الرئيس الأميركي جورج بوش في منطقة الشرق الأوسط التي لم تكن في محلها بالنظر الى القوى والمصالح الحقيقية للمنطقة - وكل ما قاله هناك تقريبا عن التهديد الايراني المزعوم، والسلام الاسرائيلي الفلسطيني، وتصوره الخيالي للتطور الديموقراطي في العراق، وحتى عن ارتفاع أسعار النفط والاقتصاد الأميركي، تسببت في حرج كبير لمضيفيه العرب، اضافة الى المسؤولين والصحافيين الأميركيين المرافقين له.
فقد زكت جولته الوداعية للشرق الأوسط - الاستنتاج الذي توصل اليه الكثيرون في الخارج منذ مدة، والقائل بأن بوش لم يعد يحكم الولايات المتحدة، بل ولا يفهم علاقاتها الخارجية الحالية، فحاليا يسود شعور على نطاق واسع بأن ما يشبه انقلابا قد حدث في الولايات المتحدة، سُحبت خلاله من جورج بوش، من دون أن يقر بذلك (أو أن يعترف بحدوثه على الأقل)، سيطرته على المواضيع الرئيسية للحرب والسلام.
وقد اتخذ هذا الانقلاب شكل ما يشبه تمردا من قبل مسؤولي أجهزة السياسة الخارجية التابعة لحكومة الولايات المتحدة، وذلك بموافقة ضمنية من وزير الدفاع الجديد، وقادة الجيش، ومدير الاستخبارات المركزية الذي عينه بوش نفسه، أما التنفيذ، فقد قامت به أجهزة الاستخبارات الست عشرة الرسمية التابعة للحكومة الأميركية، ليس كنوع من تحدي القانون، وانما عبر التطبيق الوفي والصادق لواجبهم مثلما ينص على ذلك القانون، متمثلا في تشكيل حكم مشترك بمعزل عن الضغوط أو المصالح الحزبية بخصوص المسائل التي تهم مصالح البلاد.
ثمة شعور يسود على نطاق واسع مفاده أن ثمة انقلابا حدث في الولايات المتحدة، سُحبت خلاله من بوش، سيطرته على المواضيع الرئيسية للحرب والسلام.
وهكذا، اعلن عن تقرير أجهزة الاستخبارات الاميركية في الثالث من ديسمبر الماضي بعد استشارات مع الوكالات المدنية والعسكرية حُرص خلالها على تحصينها من تدخلات الشخصيات الحزبية السياسية في ادارة بوش- وقُدم الى البيت الأبيض والصحافة والبلاد برمتها كنوع من الأمر الواقع، وجاءت خلاصات التقرير لتفند ادعاءات البيت الأبيض وغيره القائلة بأن ايران تعمل على تطوير أسلحة نووية، في تناقض تام مع الرأي الجماعي لكل أجهزة الاستخبارات التابعة لحكومة الولايات المتحدة.
كان الأمر ينطوي على تهديد ضمني، ويتمثل في ان قادة الأجهزة العسكرية الرئيسية ورؤساءهم في وزارة الدفاع لن يقوموا بتنفيذ أمر رئاسي يقضي بمهاجمة ايران، غير ان هذا القرار لن يتخذ شكل رفض وعصيان مباشر للأوامر، وانما سيكون رفضا من قبل الجيش وقادته لتنفيذ أي أمر من هذا القبيل الى حين ان يتم ابلاغ الكونغرس واستشارته، ويقوم بواجبه الدستوري المتمثل في منح موافقة تشريعية رسمية على أعمال الحرب.
وهكذا، تسبب الرفض المحزن والجبان للكونغرس خلال السنوات الأخيرة ونحن لا نقصد بذلك الكونغرس الحالي فقط، وانما كل كونغرس أميركي تقريبا منذ الحرب الباردة - للقيام بمسؤولياته الدستورية في ما يتعلق باعلان الحروب وتمويلها، في انتقاده ومعاتبته من داخل الفرع التنفيذي للحكومة اليوم، وعلى هذه الخلفية، فان الزعماء في الفرع التنفيذي غير مستعدين اليوم لتنفيذ الأوامر الرئاسية التي لا تحمل معها ترخيص الفرع التمثيلي للحكومة (الكونغرس)، مثلما ينص على ذلك الدستور.
وهو ما يمثل ردا من قبل الفرع التنفيذي على الجهود التي يبذلها البيت الأبيض في عهد ادارة الرئيس بوش، والذي يتصرف وفق نظرية جديدة ومثيرة للجدل تقول بمنح صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية بخصوص المسائل التي تتعلق بالأمن القومي، وذلك من أجل تغيير ممارسة وسوابق الحكومة الأميركية بشكل دائم.
حتى الآن، لم تواجَه هذه الجهود بمعارضة فعالة وقوية في الكونغرس، بل انها حظيت عموما بدعم جهاز قضائي بات خائفا من الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها وزارة العدل في عهد بوش، وتعيينات ادارته على الصعيد الفيدرالي والمحكمة العليا، ما جعلهم يميلون الى التلميح الى أن النظرية الجديدة قد يتم تبنيها بشكل دائم، حيث لم تكن ثمة مقاومة قضائية قوية لتحدي الادارة للقواعد الأساسية للحكومة والعدالة الأميركيتين: احترام السوابق الانسانية، والالتزام في اطار القانون الدولي بالاتفاقيات بخصوص معاملة المدنيين زمن الحرب، واحتجاز ومعاملة السجناء، أو «المعتقلين«، وما يصفه «اعلان الاستقلال الأميركي» بـ «الاحترام الكريم لآراء الانسان».
الى ذلك، يمكن وصف المسألة أيضا بأنها تمرد من قبل ما أضحى اليوم من العادي وصفه بالمجتمع المدني، ونقصد به تلك الأقلية التي يشكلها زعماء المؤسسات المهمة في المجتمع، الذين يتمتعون بحس المسؤولية، وهؤلاء يريدون المطالبة بمحاسبة الحكومة الأميركية، والدفاع عن القواعد التقليدية للمجتمع الأميركي مثل العدالة والحشمة وغيرهما.
اليوم، يبدو من المعقول القول ان نوعا من التعقل قد حدث على صعيد الرأي الأميركي، يبرر التمرد الذي حدث داخل الحكومة، وذلك في وقت أصبح فيه انعدام مسؤولية حكومة بوش- تشيني واضحا بشكل متزايد (فالعام الماضي اتضح عزمها الواضح على بدء حرب أخرى في الشرق الأوسط، مع ما كان ينطوي عليه ذلك من خطر اثارة صراع اقليمي يورط الولايات المتحدة لسنوات).
ربما اكون بصدد الاعراب عن رأي رومانسي حول ما حدث، وآمل ألا يكون الأمر كذلك. وشخصيا، اعتقد ان خطأ فادحا في الحكم وتصرفا مخالفا للدستور فقط قد يبررا «انقلابا» وذلك مهما كان الطابع «ما بعد الحداثي» الذي يتخذه، ومهما كانت دوافعه، ولكنني أود ان اشير الى ان الحملة الانتخابية الدائرة رحاها حاليا تبرز ان القوى الموجودة داخل الدوائر السياسية ودوائر السياسة الخارجية في واشنطن، والمدعومة من قبل المصالح المالية والصناعية، ملتزمة بالقضاء على كل تحد للسياسات التي غيرت منذ بعض الوقت الطابع السياسي للولايات المتحدة، ولذلك، فلا بد من الدفاع عن نظام الحكم الأميركي.
عن الهيرالد تريبيون
صفحة قضايا في ملف ( pdf )