مواجهات يشهد عليها التاريخ
اعداد: محمد الحسيني
التاريخ تسطره إنجازات صنّاع أحداثه من الرجال والنساء، وكم لنا في هذا التاريخ من عِبَر ومواقف تستحق أن نقف عندها لنستفيد منها أو نثري بها معلوماتنا.
في بحر الزمن نغوص لنستحضر على مدى 30 حلقة مواجهات لا تنسى من مختلف العصور والحضارات في مجالات الحرب، الأدب، الفن والرياضة، كان التاريخ شاهدا عليها وتستحق أن نستعيدها.
-
صلح »الرملة« أبقى القدس بيد المسلمين وسمح للمسيحيين بدخولها بسلام للصلاة
-
أوفد صلاح الدين طبيبه لمساعدة خصمه ليشفى من جروحه وزوّده بحصانين عندما سقط حصانه بالمعركة
«من ملك الإنجليز ريتشارد قلب الأسد إلى صلاح الدين الأيوبي ملك المسلمين: حامل خطابي رجل شجاع.. وقعت أخته بالأسر فأخذها رجالكم الى قصركم وغيروا اسمها من ماري إلى ثريا، وان لملك الإنجليز رجاء ألا تفرقوا بينهما، ولا تحكموا على عصفور بأن يعيش بعيدا عن أليفه وفيما أنا بانتظار قراركم أذكركم بقول الخليفة عمر بن الخطاب، وقد سمعته من صديقي الأمير حارث اللبناني وهو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».
هذه الرسالة كما يستشف من مضمونها وجهها الملك ريتشارد الأول الذي قاد الحملة الصليبية الثالثة الى دول المشرق لغريمه ملك المسلمين صلاح الدين الأيوبي للافراج عن احدى أسيرات الحروب بين الجانبين.
ردّ صلاح الدين على الرسالة كان شاهدا على نبل ورقي وشجاعة وفروسية هذا الرجل ويلخص الأطروحات التي كتبت عن طبيعة العلاقة والمواجهة بين الملكين الخصمين اللذين دخلا التاريخ من أوسع أبوابه.
فردّ صلاح الدين: «من سلطان المسلمين الى ملك الانجليز ريتشارد قلب الأسد، صافحت البطل الباسل الذي أوفدتموه رسولا الي، فليحمل اليكم المصافحة ممن عرف قدركم في ميادين القتال، واني لأحب ان تعلموا انني لن احتفظ بالأخ أسيرا مع اخته، لأننا لا نبقي في بيوتنا إلا أسلاب المعارك. لقد أعدنا الأخ لأخته، وإذا عمل صلاح الدين بقول عمر بن الخطاب، فلكي يعمل ريتشارد بقول عيسى: فرد أيها المولى الأرض التي اغتصبتها الى أصحابها، عملا بوصية السيد المسيح عليه السلام.
القائدان في سطور
الملك ريتشارد الأول لقّب بـ «قلب الأسد» لما عرف عنه من شجاعة ورباطة جأش في ساحات المعارك، كان فارسا ماهرا وشجاعا وقائدا فذا وذكيا في ادارة الحروب وينقل عنه انه لم يهزم ابدا في مبارزة بالسيف واعتاد ان يتقدم جيشه دون خوف أو تردد.
وهو ابن الملك هنري الثاني وترجع اصوله الى مقاطعة انجو في فرنسا من أسرة «البلانتاجانت» التي حكمت انجلترا من 1154 الى 1399 وتعود اصولها الى فرنسا.
قضى ريتشارد اغلب السنوات الـ 10 من حكمه في ميادين الحرب والقتال وهذا ما أضعف الأوضاع السياسية في بلاده، ولم يعد الى بلاده إلا بعد ان وصلته معلومات بان اخاه «جون بلا ارض» يخطط لعزله، وفي طريق العودة تعرض للاعتقال بأمر من الامبراطور الألماني «هاينر الرابع» ثم اطلق سراحه مقابل فدية كبيرة.
تحرير القدس
بقيت القدس تحت سيطرة الصليبيين منذ 1144م وحتى 1187م، عندما تمكن صلاح الدين من تحريرها في معركة حطين التاريخية، ما دفع بزعماء الصليبيين في اوروبا الى الاستعداد مجددا لخوض حملة جديدة على بلاد المشرق ومحاولة استعادة سلطتهم على الأماكن الدينية في القدس اولا وتقويض التهديد الاسلامي المتنامي لأوروبا والأراضي التابعة لها ثانيا.
وكان من بينهم فيليب الثاني ملك فرنسا وفريدريك بارباروسا ملك المانيا وريتشارد قلب الأسد الذي زحف الى المنطقة وحقق بعض الانتصارات لكنه في النهاية لم يستطع ان يحقق النصر على جيش صلاح الدين واضطر ليعود ادراجه.
حكم صلاح الدين الأيوبي و- هو من اصول كردية - سورية 19 سنة ومصر 24 سنة، ويقول المؤرخ الانجليزي مالكم كاميرون انه «نابليون كردي وقائد لا يقل عن نابليون في الجدارة والطموح لقيادة العالم الشرقي».
وقال المؤرخ الانجليزي اميروتو: بعد الحملة الصليبية الثانية مرت فترة لم تقم اوروبا خلالها بأي نشاط عسكري ضد المسلمين، وفي هذه الأثناء حدث اكبر حادث في تاريخ الحروب الصليبية وهو ظهور صلاح الدين الأيوبي،
وبينما كان المعسكر الاسلامي يقوى بهذا البطل كان معسكر الصليبيين ينهار، فقد كانت الامارات اللاتينية في سورية وفلسطين تعيش في اتعس الظروف التي يخلقها النظام الاقطاعي، ومال المحتلون الى الدعة يوما بعد يوم، ونسوا ما تتطلبه حياتهم كغاصبين من مهام ومسؤوليات، اما المعسكر الاسلامي فقد حصل في هذه الأثناء على مكانة حققها له القائد الجديد الذي كان اعظم شخصية سياسية وعسكرية عرفها عصر الحروب الصليبية، ليس فقط في بطولته الحربية، بل في صفاته الشخصية التي تضعه في القمة بين العظماء والمصلحين في تاريخ العالم، لقد كان صلاح الدين يعرف اهدافه الحربية، ويجيد التخطيط لها، وكان من رعاة العلوم والمعارف،
وكان مثالا طيبا في الوفاء بالوعد والشهامة والكرم، وعلى النقيض من كفاءته ومن صفاته كان يتسم معاصروه من الحكام الصليبيين للولايات اللاتينية الذين كانوا همجا وبرابرة.
الاسم الحقيقي لصلاح الدين هو يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان أبوالمظفر، وأصوله من قرية «دوين» في كردستان العراق ويتحدر من قبيلة «هذباني» الكردية وهي بطن من قبيلة الروادية.
بعد ولادة صلاح الدين غادر أبوه أيوب وعمه شيركوه الى الموصل، حيث عملا لدى حاكمها عماد الدين زنكي ثم مع ابنه نور الدين الذي قربهم منه ولقب أيوب بـ «نجم الدين» وشيركوه بـ «أسد الدين» ويوسف بـ «صلاح الدين» وتنقلت العائلة بين حلب ودمشق وبعلبك.
وقف نور الدين زنكي بوجه الحملة الصليبية الثانية وهزمها ومنعها من الاستيلاء على دمشق عام 1148م، وتمكن من طردها من عدة مناطق في الشام خارج الأراضي التابعة له. وعندما استنجد به الوزير الفاطمي «شاور» في مصر حيث انقلب عليه الوزير ضرغام وطرده وقتل ابنه أرسل نور الدين زنكي جيشا الى مصر بقيادة شيركوه (أسد الدين) الذي اختار ابن اخيه صلاح الدين ليرافقه ودخلوا مصر وقتلوا ضرعام، وأعادوا الحكم لشاور، لكن الأخير عاود اتصالاته مع الصليبيين فقبض عليه أسد الدين واستولى على الحكم وقتله، وعُيّن وزيرا لنورالدين زنكي في مصر، ولما مات أسد الدين تولى صلاح الدين منصبه وقضى على دولة الفاطميين وبرز نجم الدولة الأيوبية.
نفوذ صلاح الدين لم يرق لنورالدين زنكي الذي قرر الزحف الى مصر لاستعـــــادتها، لكن الموت فاجأه وحصل العكـــس، حيـث استطاع صلاح الدين ان يمد نفوذه الى سورية ويدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
الفروسية الحقيقية
كان صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد قائدين لجيشين متقاتلين هزم كل منهما الآخر في عدة مواقع في حيفا ويافا وعكا وغيرها، وكل منهما يدافع عن قضيته انطلاقا من عقيدته الدينية، ومع ذلك كانت الفروسية العنوان الأبرز لتلك العلاقة، وقد تجلت في أكثر من موقف لعل اشهرها عندما أصيب ريتشارد قلب الأسد في إحدى المعارك اصابة بالغة فأرسل له صلاح الدين طبيبه الخاص الذي ساعده على الشفاء منها. وخلال معركة يافا التي انتصر فيها ريتشارد خسر ريتشارد حصانه فأرسل له صلاح الدين حصانين. كما كان صلاح الدين يرسل لغريمه الفاكهة، واقترح ريتشارد على صلاح الدين ان يزوج أخته لشقيق صلاح الدين.
الصلح
بعدما صمد الجيش الأيوبي وأهل القدس بوجه الحملة الصليبية الثالثة وبعد الخسائر الكبرى التي أصيبوا بها، اضطر ريتشارد الأول الى التخلي عن فكرة اقتحام القدس وعقد صلح «الرملة» مع صلاح الدين الذي اتفق بموجبه الجانبان على ان تبقى المدينة بأيدي المسلمين، لكن يسمح بالمقابل للمسيحيين بدخولها للصلاة بسلام ودون ان يتعرض اليهم أحد، كما سمح صلاح الدين للصليبيين بالاحتفاظ بشريط ساحلي من يافا الى صور.
النهاية
توفي صلاح الدين في 4 مارس 1193م في دمشق بعد وقت وجيز من عودة ريتشارد قلب الأسد. وعندما فتحت خزينة صلاح الدين لم يعثر فيها الا على 17 درهما وهو مبلغ لا يكفي لتسديد نفقات دفنه، بعدما كان تبرع بجميع أمواله لأعمال الخير، توزعت مملكته بين أبنائه وأقاربه، ولم تلبث ان انهارت على يد المماليك، لكنه حقق مجدا كان كفيلا بتخليده على مدى التاريخ.
اما ريتشارد فمات عندما تعرض للاصابة برمح عن طريق الخطأ، ما أدى الى اعتلاله ثم موته، وقد صفح عن الرامي كما صفح عن أخيه جون بلا أرضه وعينه وريثا له رغم ان الأخير حاول الانقلاب عليه في غيابه، العديد من قادة أوروبا الصليبية قادوا الحملات، لكن مواجهة ريتشارد مع صلاح الدين جعلته أشهرهم على الاطلاق.