ألقى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، محاضرة في جامعة أم القرى في مكة عن والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
وتناول الأمير سلمان من خلال هذه المحاضرة جوانب في حياة مؤسس المملكة وكشف عن وجوه جديدة في شخصيته.
كما ذكر الأمير سلمان العديد من القصص التي لم تسمع سابقا، وسرد تفاصيل دقيقة ومؤثرة في مسيرة الملك الراحل.
وجاء في كلمة الأمير سلمان: يطيب لي أن أدشن في جامعة أم القرى أعمال موسوعة الحج والحرمين الشريفين التي صدرت الموافقة السامية الكريمة عليها، باهتمام من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والتي تقوم عليها دارة الملك عبدالعزيز بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج في جامعة أم القرى، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ووزارتي الحج، والتعليم العالي وبدعم مشكور من مجموعة بن لادن السعودية.
ويشرفني أن أكون رئيسا لمجلس إدارة «مركز تاريخ مكة المكرمة» الذي أعلن عنه هذه الليلة (امس) ومعي الأخ الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة نائبا، متمنيا للجميع التوفيق والنجاح لخدمة هذه البلاد ورفعتها.
وأجدها فرصة مناسبة للحديث عن لمحات يسيرة من تاريخ الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود رحمه الله في مكة المكرمة وبعض الجوانب التأسيسية والإنسانية في حياته.
وتابع الامير سلمان قائلا: عاشت الجزيرة العربية قرونا طويلة من عدم الاستقرار وعدم الأمن وضعف الدين عند الناس وانتشار دويلات كثيرة لا تتجاوز حدود قرية أو بلدة أو إقليم بعد أن كانت قبل ذلك ولقرون عدة تنعم بالوحدة والاستقرار في فترة الدولة الإسلامية في عهد المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم والدولة الأموية والدولة العباسية، وجاءت الدولة السعودية لتعيد الاستقرار لهذه المنطقة على نهج الدولة الإسلامية الأولى وتوحد أغلب أجزائها في دولة واحدة، تقوم على الكتاب والسنة وليس على أساس إقليمي أو قبلي أو فكر بشري منذ أكثر من 270 سنة عندما تبايع الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله على ذلك.
واستطرد: ونتيجة لهذا الأساس المهم والالتزام به عادت الدولة السعودية للظهور مرة ثانية ومرة ثالثة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله وهو ما توقعه المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان عام 1239هـ في كتابه «تاريخ مصر في عهد محمد علي» إثر سقوط الدرعية وقبل قيام الدولة السعودية الثانية قائلا: «ولكن ذلك البلد يضم في جنباته بذور الحرية والاستقلال فمازالت المبادئ الدينية نفسها موجودة وقد ظهرت منها بعض البوادر ومع أن أسرة آل سعود قد تفرقت ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء فمازال هناك أساس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد».
وتابع الامير سلمان في كلمته بدأ الملك عبدالعزيز إعادة تأسيس الدولة السعودية في سن مبكرة وبأفراد قليلين، وجعل كلمة التوحيد هي الأساس، وفي الوقت الذي كان البعض ينادي بالوحدة العربية على أساس قومي دون تطبيق، انبرى يحقق تلك الوحدة عمليا في أغلب أرض الجزيرة العربية، ورغم أن عبدالعزيز عدناني من جهة الأب وقحطاني من جهة الأم، وتعكس عروبته الأصيلة هذه قوميته، إلا أن انتماءه للإسلام.
واستعرض الامير سلمان ما عرف عن الملك عبدالعزيز بتدينه الصادق والصحيح الذي أسهم في نجاحه وتوفيقه وانطباع شخصيته بقيم الإسلام ومبادئه الإنسانية، وقد ذكر الشيخ عبدالله خياط رحمه الله الذي كان قريبا منه في كتابه لمحات من الماضي أن الملك عبدالعزيز إذا كان ثلث الليل الأخير تشعل له المصابيح الكهربائية وينتهز هذه الفرصة الثمينة في قيام الليل ويستمر في مناجاة ربه بآياته ويتضرع إليه ويبكي بكاء الثكلى ويستمر على هذا الوضع حتى قبيل الفجر فيوتر ثم يصلي الصبح في جماعة، وأذكر عندما كنت صغيرا أنه كان يتابعنا دائما في جميع الأمور خاصة الصلاة والدراسة، إذ كنا نصلي جميع الفروض معه وقد خصص رحمه الله غرفة خاصة في قصر المربع ليحجز فيها كل من يتخلف عن الصلاة معه بما في ذلك صلاة الفجر وقد كنت واحدا من أبنائه الذين جربوا تلك الغرفة في يوم من الأيام، وكانت عمتي نوره رحمها الله هي من تشفع لنا عنده.
تعامل الملك عبدالعزيز مع من عارضه أو حاربه من أجل إقامة هذه الدولة تعاملا إنسانيا وكريما حتى قيل إنه ما من شخص عاداه وبقي حيا يرزق إلا عاد إليه طوعا بسبب حسن تعامله وصدقه مع الناس وإنسانيته.
وتجسدت قمة هذا التعامل الإنساني لديه في منهجه، رحمه الله، بوضع الثقة في أولئك الرجال الذين كانوا خصومه ثم أصبحوا معه حيث أسند إليهم المناصب القيادية في مجالات الإدارة والتعليم والجيش والمال والتشريفات وغيرها.
وبالحديث عن العدل في شخصية الملك عبدالعزيز قال الامير سلمان انه سمة أساسية لأنه من مقتضى الحكم الصحيح، والشواهد كثيرة على عدل الملك عبدالعزيز وإنسانيته إذ كتب أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» كان الملك عبدالعزيز يراقب قافلة، أناخت بالقرب من مخيمه في العقير، وكان بها جمل متعب وطلب صاحبه وأبلغه أن يترك الجمل يرعى ولا يعيده إلى القافلة رأفة به وقال الملك للريحاني «العدل عندنا يبدأ بالإبل، ومن لا ينصف بعيره، يا حضرة الأستاذ، لا ينصف الناس».
كان لا يرتاح عندما يشاهد وضعا يقتضي العطف فيبادر بمواقفه الرائعة التي تنبض بالرفق واللين والإنسانية، وقد ذكر عبدالعزيز الأحيدب، رحمه الله، في كتابه «من حياة الملك عبدالعزيز» أنه عندما جاء عبدالعزيز يتابع العمل في بناء القصر في المربع وكان ذلك في رمضان شاهد عمالا يقومون بالعمل تحت الشمس الحارقة، فتوقف وسأل رئيسهم عن مواعيد عملهم فأجابه إنهم من الصباح الباكر حتى العصر فتعجب جلالته وقال: «أنا لا أعمل بيدي وأستعمل السيارة وأشعر بالعطش من الآن فصاعدا لا تعملوا في رمضان أكثر من أربع ساعات في أول النهار ولكم أجركم كاملا».
وتابع الامير سلمان كلمته قائلا: وكان، رحمه الله، يأخذ معه دائما صررا فيها نقود فضة في السيارة ليساعد بها من يقابلهم من المحتاجين في الطريق، فلقد روى خير الدين الزركلي في كتابه أن الملك في يوم من الأيام كان يتجه نحو عرفة ورأى جمالا، وسأل عن أحواله ثم ناوله صرة نقود.
وبعدما تحركت السيارة قال السائق للملك ان الصرة التي أعطيت للرجل كانت ذهبا وليست نقودا فضة، فطلب الملك من السائق العودة إلى الرجل واعتقد السائق أن الملك سيستعيد تلك الصرة ويستبدلها بأخرى لكنه فوجئ بأن الملك ينبهه إلى أن الصرة التي أعطيت له هي صرة ذهب حتى لا يخدعه أحد لعدم معرفته بذلك وأمر السائق أن يمضي في المسير قائلا: أعطاه الله.
واضاف: وتعد مكة المكرمة والمدينة المنورة أعز الأماكن في نفس الملك عبدالعزيز، رحمه الله، حيث أعطاهما جُل اهتمامه وقدم لهما ما يلزم من مال ووقت وأكثر من ذلك، وكان، رحمه الله، يقضي كل عام في مكة وقتا طويلا قبل الحج وبعده.
ففي مكة المكرمة أرسى، رحمه الله، دعائم المشاركة الوطنية في إدارة شؤون البلاد الداخلية عندما أسس المجالس الأهلية والبلدية وجعلها بالانتخاب وأسس مجلس الشورى عام 1345هـ ومقره مكة المكرمة وفيها أصدر أول جريدة رسمية للمملكة العربية السعودية باسم «أم القرى» عام 1343هـ وجعل مقرها مكة المكرمة.
ومضى الامير سلمان قائلا «وفي مكة المكرمة أيضا بويع الملك عبدالعزيز ملكا على الحجاز وسلطانا على نجد وملحقاتها في عام 1344هـ حول باب الصفا في المسجد الحرام ثم طاف بالبيت العتيق وصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم گ شكرا لله موحدا للمولى عز وجل على توفيقه وتمكينه.
وفي مكة المكرمة أيضا أصدر الملك عبدالعزيز أول نظام شامل لإدارة البلاد وحكمها وهي التعليمات الأساسية في عام 1345هـ أي بمنزلة النظام الأساسي كما صدرت في مكة المكرمة المئات من الأنظمة في عهد الملك عبدالعزيز لتسهم في بناء البلاد وتطوير جوانبها المختلفة التي لايزال معظمها يعمل به إلى يومنا هذا.
وشهدت مكة المكرمة إعلان نظام ولاية العهد للمرة الاولى في البلاد حينما رفع عدد من أعيان مكة المكرمة أولا ثم أعيان المدينة المنورة وتلاها عدد من المدن الأخرى إلى الملك عبدالعزيز كتابا يطلبون فيه تعيين الأمير سعود بن عبدالعزيز وليا للعهد.
ونتيجة لذلك صدر قرار مجلسي الشورى والوكلاء في مكة المكرمة بمبايعة الأمير سعود بولاية العهد في عام 1352هـ وكان، رحمه الله، قد عين ابنه الملك فيصل نائبا عنه في مكة عام 1344هـ ».
ومنذ دخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة وهو يولي المسجد الحرام والمشاعر المقدسة والأهالي والحجاج والمعتمرين اهتمامه الخاص، ومن اهتماماته المبكرة إجراء الإصلاحات والترميمات في المسجد الحرام وإنارته بالكهرباء لأول مرة وتهيئة أماكن الطواف والسعي من خلال رصفها وتوسعتها ونشر الأشرعة والمظلات لحماية المسلمين من حرارة الشمس أثناء أداء صلواتهم ومناسكهم، كما اهتم الملك عبدالعزيز بتهيئة مياه الشرب وبناء السبيل وتعمير عين زبيدة وبناء بئر زمزم وإنشاء مصنع لكسوة الكعبة للمرة الأولى في مكة المكرمة.
هكذا حقق الملك عبدالعزيز وحدة البلاد ووحدة المواطنين وأنجز أسس البناء في المملكة وعلى رأسها توسعة الحرمين الشريفين ليستكمله أبناؤه من بعده الملك سعود والملك فيصل والملك خالد، رحمهم الله، على نهجه وسياسته.
وفي عهد الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله تواصلت مسيرة البناء في البلاد وتحققت أضخم توسعة للحرمين الشريفين من منطلق العناية الخاصة التي يوليها قادة هذه البلاد لهذه الأماكن المقدسة.
وختم الامير سلمان «واليوم هاهو خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وأخوه سمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز يواصلان هذه المسيرة التنموية الخاصة بالبلاد ويقدمان المزيد من الإنجاز والاهتمام بالحرمين الشريفين.
ويعد وقف الملك عبدالعزيز الذي خصصه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخدمة الحرمين الشريفين وصدور أمره الكريم من مكة المكرمة بإنشاء هيئة البيعة عام 1427هـ ولائحتها التنفيذية عام 1428هـ من الإنجازات التاريخية المتعددة التي تسجل له حفظه الله».
الصفحة في ملف ( pdf )