بيروت - محمد حرفوش
13 ابريل عام 1975 يوم فاصل في حياة لبنان واللبنانيين، حيث غدا وعلى مدى 15 عاما تاريخا ثابتا لميلاد الموت في لبنان، حيث استولدت الكثير من الحروب الصغيرة التي تمت على هامش التطاحن الذي كان جاريا بين منطقتي الشرقية والغربية في بيروت.
وعلى الرغم من ان البعض يذهب بتحديد عناصر الحرب اللبنانية الى القرن قبل الماضي، فإن تلك العناصر تركت بصماتها مباشرة بعد الاستقلال على شكل ازمة سياسية حادة في عهد الرئيس بشارة الخوري وحوادث عام 1958 في عهد الرئيس كميل شمعون، الا ان آخرين يرون ان نزف الدم اللبناني له بدايات مردها الى تركيبة سلطة ما قبل اتفاق الطائف ولجوء الآلاف الى طوائفهم باعتبارها ملاذا احتمائيا بديلا عن الوطن، مما اسقط المواطنة المؤهلة لاجتماع اللبنانيين على هوية ما بعد الاستقلال.
قبل الثالث عشر من ابريل 1975 بدا لبنان على حافة سؤال يغوص في المجهول فجملة من التوترات التي سبقت تحريك مفتاح الحرب تركته عرضة لسفور الاسئلة الكبيرة، ففي 26 من فبراير انطلقت تظاهرة ضخمة لصيادي الاسماك بقيادة النائب السابق معروف سعد في مدينة صيدا جوبهت بالرصاص واصيب خلالها سعد بجروح خطرة توفي على اثرها، الامر الذي شكل لاحزاب اليسار مبررا للدعوة الى اضراب وتظاهرة في بيروت قابلتها اخرى لأحزاب اليمين تأييدا للجيش اللبناني، وتلتها تصريحات مضادة حول دور الجيش في الحياة السياسية الداخلية واعقب الاخيرة هجوم على شاحنة عسكرية لبنانية في صيدا أدى الى قتلى وجرحى.
وترافق ذلك مع تفجير مقر حزب الكتائب في منطقة «حارة حريك» تبعه سيل من التصريحات لرئيس حزب الكتائب حينها بيار الجميل انتقد فيها الاعمال الفلسطينية المسلحة في لبنان.
وفي هذه الاجواء المتوترة، شهد لبنان تشنجا عاليا في الجنوب وتأزما حكوميا على المستوى الرسمي، حتى كان موعد انفجار الدم في منطقة عين الرمانة لدى مرور باص «بوسطة» كان يقل فلسطينيين شاركوا في احتفال اقامته المقاومة الفلسطينية وبات لبنان عرضة لتحولات كانت معدة سلفا حولته الى معرض للخرائب.
وبشيوع خبر احداث البوسطة اقيمت المتاريس في كل مكان وقسمت بيروت الى اثنتين: شرقية وغربية ودخلت مفردة القبرصة على الخطاب السياسي اللبناني، وطفت آلة الحرب واضحى لبنان اسير الميليشيات المتقاتلة والنشرات الاخبارية للانباء السريعة التي تحدد الطرق الآمنة والسالكة في كل صباح وظهر ومساء.
وتسلمت كل قرية نصيبها من الجثث وسفكت الدماء على الطرقات والاشلاء في كل مكان والذبح صار على الهوية.
امام اشتعال بيروت، قدمت حكومة الرئيس رشيد الصلح استقالتها في 15 مايو 1975 وعين الرئيس رشيد كرامي لرئاسة الوزراء على امل كبح فرامل الموت الا ان المتاريس والدشم المسلحة ارتفعت اكثر.
مؤتمرات وحلول
وفي ظل هذا الموت المفتوح خرج لبنان من دائرته الداخلية ومن الدائرة العربية الى الدائرة الدولية ومعها اسرائيل فوصل في نوفمبر المبعوث الفرنسي «كوف دي مور نيل» في وساطة اصابها الفشل وبعد ايام وصل الامين العام للامم المتحدة كورت فالدهايم وخاب امله في حل هو الآخر، وتبعه مبعوث اميركي وفشل ايضا.
هذا التعاقب الدولي ترافق مع جهود عربية عدة حاولت تهدئة الجو ضمن تحركين للكويت في 26/12/75 و27/3/76 تلاهما تحركات سورية وليبية ومصرية وعلى مستوى الجامعة العربية، بيد ان كل المبادرات سقطت امام الآلة العسكرية فانقسم الجيش وانتشرت الاسلحة وتعدى عدد القتلى 150 الفا حتى 1/6/1976 الامر الذي استدعى تحركا عربيا رفيعا اسفر عن انتخاب الياس سركيس رئيسا ودخول سورية الى بعض المناطق اللبنانية في البقاع والشمال.
وفي الثامن من يونيو، انعقد في القاهرة مؤتمر لوزراء الخارجية العرب قرر المؤتمرون اثره تشكيل قوات الامن العربية وقوامها ستة آلاف رجل من السعودية وسورية والسودان والامارات وليبيا.
وتلاه في الرابع والعشرين من الشهر نفسه مؤتمر في الرياض على مستوى رؤساء الحكومات لكن وصول قوات الامن العربية الى لبنان لم يلجم الحرب والقتل فتنادى الملوك والرؤساء العرب الى قمة في الرياض في اكتوبر 1976، واصدر المجتمعون قرارا بوقف اطلاق النار فورا، وبعد هذه القمة انعقدت قمة القاهرة الموسعة وتم الاتفاق على تشكيل قوات الردع العربية حين حاول اليساريون من لبنانيين وفلسطينيين عرقلة دخولها الى مناطق سلطاتهم فاصطدموا معها ثم استقبلوها لاحقا.
الاجتياح الإسرائيلي
لم يطل أمد استراحة المحاربين ومع مطلع عام 1978 اعلن قائد القوات اللبنانية بشير الجميل في ابريل من ذلك العام عزمه على شن حرب عصابات على قوات الردع العربية في مناطق محسوبة على نفوذه وعاد مسلسل الموت اليومي ولمدة ثلاثة اشهر انتهت بخروج قوات الردع من المنطقة الشرقية تحت ضغط اوروبي - اميركي - اسرائيلي.
وانتقلت الكتائب بالمعركة الى زحلة فاتحة الباب امام اسرائيل لعمليات عسكرية واسعة ضد القوات السورية على أرض لبنان.
ومع اجتياحها للعاصمة في يونيو 1982 زادت الامور تعقيدا خاصة بعد ان فرضت تركيبة سياسية اوصلت بشير الجميل الى السلطة.
وانتخب بشير الجميل رئيسا للجمهورية في اغسطس عام 1982 في ظل انقسام كبير حوله، وتحت عناوين متفاوتة جاءت القوات متعددة الجنسية الى لبنان ولم يحل وجودها دون حصول مجازر صبرا وشاتيلا اضافة الى ان هذه القوات تحولت الى طرف في القتال اللبناني فكانت «النيوجيرسي» حاضرة مما ادى الى عمليتين انتحاريتين نفذتا على مقري المارينز والمظليين الاميركيين في 23 من اكتوبر 1982.
واغتيل بشير الجميل في 14 سبتمبر 82 وانتخب شقيقه امين خلفا له وكانت مفاوضات جرت مع اسرائيل تم التوصل خلالها الى اتفاقية في 17 مايو 1983 وافقت عليها حكومة شفيق الوزان لكنها لم توقع من رئيس الجمهورية، الامر الذي اعاد الحرب الى اوجها فقامت المجازر وذبح النساء والاطفال والشيوخ والرجال ونشأ تكتل المعارضين له في جبهة عسكرية واحدة فولدت انتفاضة 6 فبراير عام 1984 وبفعل هذه الانتفاضة تقلص نفوذ الرئيس الجميل وبدأت عمليات فرار الجنود المسلمين من الجيش.
رئيس ربع الساعة الأخير
كان واضحا منذ اواخر العام 1987 صعوبة التوصل الى صيغة اتفاقية حول رئيس الجمهورية المقبل وفي ربع الساعة الاخير سمى الجميل العماد ميشال عون رئيسا لمجلس الوزراء (23 سبتمبر 1988) ليوجد ازمة دستورية نتيجة وجود رئيس للحكومة هو د.سليم الحص كان قدم استقالته، ودخل لبنان من جراء ذلك في معضلة الرئيسيين والجيشين والشعبين، وخاض عون حربيه الشهيرتين، حرب التحرير ضد القوات السورية وحرب الالغاء ضد القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، مما ادى الى حدوث المتوقع بُعيد توقيع اتفاق الطائف عام 1990، حيث تمت ازاحة العماد عون بالقوة في الثالث عشر من اكتوبر 1990 بالاستعانة بالقوات السورية.
لقد كان الانقسام بين اللبنانيين في 13 ابريل 1975 انقساما سياسيا يندرج في جانب منه في اطار الحرب الباردة والصراع العربي - الاسرائيلي، وفي جانب آخر في اطار الصراع التقليدي حول السلطة بين الطوائف اللبنانية، وفي 13 ابريل 2008 وفي ظل الازمة السياسية الراهنة انتقلت الحرب الاهلية الى درجة اعلى في اقتحامها مجمل البنية اللبنانية ومعها الاجتماع اللبناني.
الحقيقة ان لبنان يعيش مرحلة في منتهى الخطورة، فقد يغدو البلد الوحيد في العالم الذي ليس فيه دولة، مجلس النواب لا يجتمع، والانتخابات النيابية المقبلة، هناك احتمال ان يأتي موعدها ولا يتم، فيصبح البلد من دون رئيس جمهورية ومن دون مجلس نواب وحكومة نصف الشعب اللبناني يطعن في شرعيتها، وفي ظل كل ذلك وبعد 33 عاما على اندلاع الحرب الاهلية و18 عاما على نهايتها يتساءل الجميع اي مستقبل ينتظر لبنان؟
الصفحة في ملف ( pdf )