تحليل إخباري
مثلما جاء انهيار الوضع مفاجئا ودراماتيكيا، فإن «لملمة» الوضع حصلت أيضا بطريقة مفاجئة وسريعة: ألغت الحكومة قراريها الشهيرين المتعلقين بشبكة اتصالات حزب الله واقالة العميد شقير، بالطريقة ذاتها التي اتخذ بهما القرار (بعد جلسة «ليلية» شهدت مداولات وضغوطا وانتهت الى بيان أذاعه وزير الاعلام غازي العريضي)، نزل أنصار حزب الله وأمل الى الشارع للاحتفال هذه المرة وليس للاحتجاج، وأطلقوا النار في الهواء وليس على الأرض.
ومع بزوغ فجر امس كانت «آليات المعارضة» تتحرك لفتح الطرق وازالة كل مظاهر «العصيان المدني» التي استحدثت ورتبت على عجل وكانت أقرب الى «عصيان مسلح».
حول هذه التطورات المتسارعة والحيوية، يمكن الخروج بالاستنتاجات والملاحظات التالية في تقويم أولي للوضع:
1- هذه الجولة الأقسى والأخطر في سياق المعركة السياسية المفتوحة منذ نهايات العام 2006، لم تنته الى انتصار كامل أو الى هزيمة كاملة لأي من الطرفين: الحكومة والمعارضة.
الحكومة (الأكثرية) خسرت ولم تهزم، والمعارضة (حزب الله) ربحت من دون ان تنتصر.
الحكومة خسرت مصداقيتها وما كان تبقى لها من قدرات على اتخاذ القرار وخرجت من هذه الجولة «مثخنة بالجراح»، ولكنها ظلت صامدة ولم تسقط تحت وطأة الضغوط الأمنية والنفسية الهائلة.
حزب الله نجح في كسر قرار الحكومة وحملها على التراجع موجها اليها ضربة موجعة، وهذا معادل في مفاعيله لاستقالة الحكومة، ولكنه خسر في المقابل من «رصيده المقاوم» الذي راكمه خلال سنوات، وسيكون عليه ان يبذل جهودا مركزة لمحو الآثار السياسية والنفسية لحركته الاعتراضية المسلحة، ولشرح وتبرير استخدام سلاحه في الداخل ولوأد الفتنة في مهدها.
2- الحكومة وقعت في أخطاء التقدير السياسي التي توزعت في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
- خطأ تقدير العواقب ورد فعل حزب الله على القرارات المتخذة.
فلم يكن في حساب رئيسها والكثيرين من وزرائها ان يذهب الحزب هذا المذهب، وان تشكل هذه القرارات سببا أو ذريعة كي يخرج حزب الله عن «طوره» وعلى «تعهده» بعدم استخدام السلاح في الداخل.
- خطأ تقدير الطريقة التي سيتصرف بها الجيش على الأرض و «الظروف - المعادلات» التي تتحكم بقراره الميداني في التعامل مع واقع اقفال الطرق وأعمال العنف والشغب، وتجعله غير قادر، حتى لو أراد، على مواجهة وضع معقد ومتشابك في خيوطه ومظاهره المتعددة: الاحتجاج الشعبي والفوضى المسلحة، الفتنة والحرب الأهلية.
- خطأ المبالغة في الاعتماد على الدعم الخارجي والدولي، وحيث ان أشكال الدعم التي قدمت منذ 3 سنوات لا تنفع مع وضع كالذي نشأ يتطلب أشكالا جديدة وعملية من الدعم لا تبدو متوافرة وجاهزة الآن رغم «الادراك العربي والدولي» لطبيعة التهديد الذي تواجهه «حكومة السنيورة» وأبعاده الاقليمية وانعكاسه على أوضاع وتوازنات المنطقة.
3- حزب الله خاض «تجربة دقيقة انطوت على مخاطر ومغامرة»، ولكنه عرف كيف يدخل الى «المعركة» ومتى يخرج منها.
حزب الله دخل متذرعا بقرارات الحكومة متخذا منها غطاء لمعركة «الدفاع عن النفس والسلاح»، ومقدما أو مصورا معركته بأنها سياسية وليست طائفية وضد مشروع اميركي اسرائيلي وليس ضد طائفة أو فئة، وهو خرج من المعركة عندما بدأت تلامس فعلا خط الفتنة وتتحوّل الى معارك طائفية ومذهبية وتواجه احتمال الخروج عن السيطرة والاتيان بنتائج عكسية للتحرك.
وقع حزب الله في الخطأ أيضا.
أخطاء التصرف والممارسة على الأرض التي تحفر عميقا في النفوس وتؤجج مشاعر الغضب المكبوت وتعيد انتاج «الاحباط» في اتجاهات جديدة، ولكن حزب الله نجح على المستوى السياسي في أربعة أمور رئيسية:
- اعتماد «عامل المفاجأة والمباغتة» السياسية والأمنية، وهو ما يفسر وقوع الجميع في الداخل والخارج بحال ارباك وذهول.
- تحديد «هدف واقعي ممكن التحقيق» للمعركة وعدم رفع سقفها السياسي عاليا: الهدف حدد بالتراجع عن القرارين والعودة الى الحوار، ولم يلحظ استقالة الحكومة واسقاطها.
- عدم تقديم نفسه «سلطة بديلة» على طريقة حماس في غزة، وذلك بأن «وضع الأرض المسيطر عليها في عهدة الجيش، ونقل العلاقة معه من مسار تصادم الى مسار تعاون».
- اختيار «اللحظة الاقليمية المؤاتية» في وقت كان الاميركيون منهمكين بزيارة بوش الى المنطقة وبأولويتي العراق والمسار الفلسطيني، وكانت حكومة أولمرت تواجه خطر الانقسام السياسي والسقوط، في وقت تجري اتصالات اسرائيلية سورية بوساطة تركية، وتجري محاولات ايرانية اميركية لاستئناف المفاوضات حول العراق.
4- الوزير وليد جنبلاط الذي كان له الدور الأساسي في تحريض وتشجيع الحكومة على اتخاذ القرارين، لعب دورا أساسيا في اقناع الحكومة أو حملها على التراجع، وفي اقناع الأكثرية على الدخول مجددا في «لعبة الحوار»: جنبلاط الذي يفتح خطوط التنسيق والتواصل مع الرئيس بري تعهد بأن تتخذ الحكومة قرارها بالتراجع اليوم وليس غدا، وتردد انه اضطر لتنفيذ تعهده بأن لوّح بسحب وزرائه من الحكومة، وبأن بادر الى الاتصال بوزراء مسيحيين متحفظين ومعترضين.
ومقابل تعهد جنبلاط كان هناك تعهد من بري بأنه يضمن فور اعلان تراجع الحكومة في شكل واضح غير ملتبس بحمل المعارضة على رفع «اعتصامها المدني» وفتح الطرق واعادة الوضع الى طبيعته.
ما الأسباب التي دفعت جنبلاط الى التراجع واعادة حساباته؟ هل يتصل الأمر بأوضاع خاصة متصلة بـ «جبله ووضعه وأمنه ومستقبله السياسي»؟ أم يتصل بالموقف الدولي العربي الذي لا يقابله جنبلاط بالرضا والارتياح ولا يجده في المستوى العملي المطلوب؟ الأيام القليلة المقبلة تجيب عن ذلك.
5- المخرج من الوضع المتفجر حصل تحت عنوان «العودة الى وضع ما قبل 8 مايو 2008»، وهذا يعني في تفسير المعارضة ازالة كل الأوضاع التي قامت بعد هذا التاريخ والابقاء على ما كان قبله.
والترجمة العملية تحصل على الشكل التالي:
- فتح الطرق والمطار والمرفأ وما أقفل من مؤسسات اعلامية واطلاق المخطوفين ووقف الحملات الاعلامية ذات الصلة بالأحداث الأخيرة.
- عدم رفع الاعتصام القائم في وسط بيروت الذي كان قبل الأحداث ويستمر بعدها الى ان يتم التوصل الى تسوية سياسية شاملة.
- الابقاء على جدول أعمال الحوار كما كان (حكومة وقانون انتخابات) من دون اضافة بنود جديدة بفعل الأحداث الأخيرة ومن وحيها (سلاح حزب الله والضمانات الأمنية).
هذا التفسير لا توافق عليه الأكثرية التي تحصر عملية اعادة الوضع الى ما كان عليه في النطاق الأمني الميداني، أي اعادة الوضع الى طبيعته على الأرض، ولكنها لا ترى امكانية تجاوز المضاعفات والمفاعيل السياسية لما جرى وكأن شيئا لم يكن.
وهذا ما يتطلب ادخال تعديل على جدول أعمال الحوار والأخذ في الاعتبار «الملف الأمني المستجد ووضعية حزب الله في بعديها المتعلقين بالسلاح ووجهة استخدامه وبالعلاقة مع الدولة وطبيعتها وحدودها».
6- العودة «بالأرض» الى وضع ما قبل 8 مايو لا تعني عودة «الأجواء» الى ما كانت عليه.
ما حصل لم يكن قليلا وعاديا وتجاوزه ليس بالسهولة التي يتصورها البعض.
فإذا لم تستتبع اجراءات التطبيع الميداني باجراءات التطبيع والحل السياسي، تكون الجولة «ختمت على زغل» ونكون أمام هدنة تمتد جغرافيا وزمنيا من بيروت الى قطر ومن فتح المطار الى عقد الحوار.
يمكن القول ان أحداث الأسبوع الأسود (7 - 14 مايو) فتحت مرحلة سياسية جديدة في لبنان، وربما يكون من حسناتها وايجابياتها القليلة اذا كان يمكن الحديث عن ايجابيات، انها كسرت الجمود السياسي المسيطر على الوضع اللبناني و«الحلقة المفرغة» التي كانت تدور فيها المبادرات والاتصالات منذ سنتين تقريبا، وبالتالي فإن نتيجة هذه الأحداث لا تقتصر على العودة الى حالة الستاتيكو التي كانت قائمة ورسخت الآن (استمرار الحكومة كحكومة تصريف الأعمال وليس كحكومة اتخاذ قرارات واحداث تغييرات)، وانما تبدو مفتوحة على احتمالات وأوضاع جديدة أبرزها ما يتصل بـ:
- تسريع وتيرة الحوار والتسوية على أساس المبادرة العربية التي بات تطبيقها ممكنا أكثر من السابق ووفق التفسير الذي أعطته المعارضة والتسوية المتكاملة، وبالتالي فإن انتخاب العماد ميشال سليمان صار ممكنا وواردا أكثر من أي وقت مضى، قائد الجيش الذي رشحته الأكثرية وعملت المعارضة على اعادة انتاج ظروف ومعادلة انتخابه.
لقد اجتاز العماد سليمان اختبارا صعبا ودقيقا أثبت من خلاله انه يقف على مسافة من الجميع ونجح من خلاله في تصحيح علاقته مع المعارضة وتنقيتها من شوائب المرحلة السابقة.
- اعادة حسابات وخيارات عند مختلف الأطراف انطلاقا من حسابات الربح والخسارة ومن اهتزاز سياسي عنيف سيؤدي عاجلا أو آجلا الى «خريطة سياسية جديدة» خارج التصنيف الذي عمل به في السنوات الماضية (8 و14 آذار) والى مشهد جديد يؤسس لتحالفات الانتخابات المقبلة في سياق عملية اعادة تكوين السلطة الجديدة.
- نشوء تغيرات وأوضاع جديدة داخل الطوائف لعل أبرزها وأكثرها مدعاة للقلق تلك التي ستشهدها الطائفة السنية التي تدفع بها التطورات الأخيرة في حال لم يتم احتواء آثارها ونتائجها بالجنوح الى التطرف و«العنف» السياسين.
الصفحة في ملف ( pdf )