بقلم: كيفين فيليبس
في اغسطس الماضي وفي ذروة الهلع حول القروض السكنية طمأن الرئيس السابق للاحتياطي الاتحادي الان غرينسبان الجمهور بقوله ان الاضطراب الراهن يشبه الى حد كبير التهديدات المالية الوجيزة التي شكلتها ازمات مثل ازمة الديون الروسية عام 1998 او انهيار سوق الاسهم الاميركية عام 1987.
ولكن كانت تسمع في الخلفية اصوات الانين والهزات الناجمة عن ارتطام الطبقات الجيولوجية السياسية والاقتصادية، واليوم وبعد تسعة اشهر لم تعد مقارنات غرينسبان المسكنة مقنعة، فالاقتصاد الاميركي يواجه مستويات غير مسبوقة من الديون وارتفاعات حادة في اسعار المواد الاولية وتراجعا في اسعار المساكن ناهيك عن ضعف الدولار، وبالرغم من الاستقرار الاخير للاقتصاد يخشى بعض الاقتصاديين من ان يواجه العالم عما قريب اعظم ازمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ويتعين على الاميركيين ان يخشوا من ان يكون الاضطراب الحالي مؤشرا الى الاضطرابات العالمية التي قوضت القوى الاقتصادية العالمية الكبرى سابقا وبصفة خاصة بريطانيا.
واليوم يقول اكثر من 80 % من الاميركيين اننا على المسار الخاطئ ولكن كثيرين منهم ان لم يكن معظمهم لا يزالون يعتقدون بأن تاريخ الدول الاخرى لا صلة له بالحاضر وبأن الولايات المتحدة حالة فريدة مختارة من الرب، وهذا كان اعتقاد معظم القوى الاقتصادية السابقة في العالم مثل روما واسبانيا وهولندا (خلال عصر امجادها البحرية في القرن السابع عشر عندما كانت نيويورك تحمل اسم نيوأمستردام)، وايضا بريطانيا في القرن التاسع عشر.
هنالك كتابات كثيرة عن تلك الاوهام والتراجعات السابقة، ومن خلال قراءتها يمكن للمرء القول بانه كان يوجد عدد من نقاط الضعف المشتركة بين اسبانبا الامبراطورية وهولندا البحرية وبريطانيا الصناعية خلال مراحل ارتقائها ثم انهيارها، مثل الاحساس بان الامور لم تعد على مسارها السليم ومثل المعتقدات الدينية الانتهازية او المتعصبة ومثل الافراط في التوسع العسكري او الامبراطوري والاستقطاب الاقتصادي وبروز التمويل وحلوله محل الصناعة والاغراق في الديون، وهذا هو وضع الولايات المتحدة الآن.
وقبل تضخيم أوجه التشابه الراهنة في الولايات المتحدة يمكن للمشككين ان يشيروا الى ان رسل الشؤم في كل بلد كانوا متعجلين في تنبؤاتهم وان كان قد ظهر صوابها لاحقا، ففي بريطانيا ابدى المشككون منذ اوائل ستينيات القرن التاسع عشر قلقهم من ان يتحولوا الى هولندا اخرى، وثارت هواجسهم مرة اخرى في تسعينيات ذلك القرن من القوة الصناعية لدول منافسة مثل المانيا والولايات المتحدة، تلك التنبؤات تحققت بحلول اربعينيات القرن العشرين ولكن عمليا كانت الانتقادات الاولى سابقة لأوانها.
المخاوف السابقة لأوانها لاحقت الولايات المتحدة ايضا، فالعقود التي اعقبت انتخابات 1968 شهدت موجات من المخاوف القومية الجديدة من ان الهيمنة العالمية الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية مهددة، اول تلك الهواجس بين 1968 و1972 كان يتعلق بمزيج غير صحي من الازمات التجارية والنقدية العالمية وانهيار اجماع السياسة الخارجية الاميركية حول جنوب شرق آسيا، وظهرت كتب تحمل عناوين مثل «الانسحاب من الامبراطورية» و«نهاية الحقبة الاميركية»، وازدادت الهواجس القومية بعد ووترغيت وسقوط سايغون، وجاءت المرحلة الثالثة في اواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما بدا ان اليابان المنتعشة تتحدى التفوق الاميركي في التصنيع وربما حتى في المجال المالي، وفي 1991 لاحظ الطامح الديموقراطي الى الرئاسة بول تسونغاس ان «الحرب الباردة انتهت وان المانيا واليابان انتصرتا»، ولم يكن ذلك دقيقا.
وفي عام 2008 يمكننا ان نجد مؤشرات على عقد خطر آخر وهو الجنون التقني بين 1997 و2000 الذي تحول الى فقاعة والى انهيار للبورصة، ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر 2001 الارهابية والغطرسة الامبريالية وغزو ادارة بوش للعراق عام 2003.
واعقب ذلك تخلي الاوپيك عن نطاق 22 - 28 دولارا لبرميل النفط مع ارتفاع ثمن البرميل على مدى خمس سنوات الى اكثر من 100 دولار، وانهيار الاحترام العالمي للولايات المتحدة بسبب حرب العراق، وانفجار سوق المساكن الاميركية، وفقاعة الديون، وتراجع قيمة الدولار مقابل اليورو بنحو 50% منذ 2002، ولهذا كله لا عجب ان تكون الاجواء متلبدة بأزمة مالية عالمية.
وهنا يكمن الاحتمال المقلق بأن تشكل ازمة مالية عالمية في نصف القرن بين سبعينيات القرن العشرين وعشرينيات القرن الحالي بالنسبة للولايات المتحدة معادلا لما شكله نصف القرن الذي سبق 1950 بالنسبة لبريطانيا، قد تكون هذه المرحلة الاخيرة من المباراة بالنسبة للسطوة الاميركية، التسلسل التاريخي يبدو منطقيا فهنا ايضا اربعة عقود من المخاوف السابقة لأوانها تنتهي بواقع غير سار.
ان وجه الشبه المرعب اكثر مع اخفاقات القوى القديمة هو اعتماد الولايات المتحدة غير السليم على القطاع المالي كمحرك لنموها.
ففي القرن الثامن عشر اعتقد الهولنديون أن باستطاعتهم الاستعاضة عن صناعتهم المتراجعة وتجارتهم بخطط كبرى لاقراض الاموال للدول الاخرى والامراء الاجانب، ولكن سلسلة من الافلاسات في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر ادت الى شل الاقتصاد الهولندي، وفي أوائل القرن العشرين قال وزير بريطاني متوجس ان بريطانيا لا تستطيع ان تزدهر من خلال «الاحتفاظ باوراق مالية مستثمرة، لأن العمل المصرفي ليس مصدرا لرخائنا بل هو نتيجة لذلك الرخاء»، وبحلول اواخر ستينيات القرن العشرين برهنت اعباء ديون حربين عالميتين على صواب فكرته واصبحت القيادة الاقتصادية العالمية البريطانية في ذمة التاريخ.
في الولايات المتحدة تخطى قطاع الخدمات المالية التصنيع كواحد من مكونات اجمالي الناتج المحلي في اواسط تسعينيات القرن العشرين، ولكن يبدو ان حماسة السوق منعت حدوث أي نقاش حول هذا التغيير المقلق، ففي اواسط سبعينيات القرن الماضي كان التصنيع يشكل 25 % من اجمالي الناتج المحلي بينما كانت الخدمات المالية تشكل 12 % فقط، ولكن بحلول 2003-2006 كان قطاع المال يشكل 20-21 % بينما انكمش قطاع التصنيع الى 12 %.
الجانب السلبي في هذا هو ان الاربع او الخمس نقاط المئوية الاخيرة في نمو القطاع المالي كجزء من اجمالي الناتج المحلي في تسعينيات القرن الماضي وفي القرن الحالي كانت تنطوي على الخداع المتمثل في فورة ازدهار القروض العقارية والتجميع المتهور للقروض في اوراق مالية وابتكارات اخرى يستحسن ان تقتصر على كازينوهات القمار، وكان الاقراض المتهور العنصر المساعد الرئيسي، وبين الاعوام 1987 و 2007 قفز اجمالي الديون في الولايات المتحدة من 11 تريليون دولار الى 48 تريليونا، وكانت ديون القطاع المالي الخاص في طليعة تلك الفورة.
وخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تعاملت واشنطن بعطف مع القطاع المالي وقدمت له السيولة والانقاذ بلا حساب، ومن دون مبرر رفض مسؤولون امثال غرينسبان ووزير الخزانة السابق روبرت روبن والوزير الحالي هنري بولسون تنظيم هذا القطاع، وبدا ان الجميع يرحبون بفقاعات الاصول ربما لاعتقادهم بأن صناعة المال هي القطاع المسيطر الجديد في التطور الاقتصادي مثلما حلت الصناعة محل الزراعة في اواخر القرن التاسع عشر، ولكن من يتوقع ان يكون للقوة الاقتصادية المقبلة (الصين او الهند او البرازيل) اجمالي ناتج محلي يغلب عليه قطاع المال؟
وبمساعدة من قطاع مالي متضخم اصبحت الولايات المتحدة في عام 2008 اكبر مدين في العالم وصاحبة اضخم عجز في الحساب الجاري كما انها اكبر مستورد وبتكلفة هائلة للسلع المصنعة والنفط، اما الضرر المحتمل اذا ما تعرض العالم لأكبر ازمة مالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي فلا يمكن تقديره، ويلوح في افقنا الآن فقدان القيادة الاقتصادية العالمية التي جعلتنا نحل محل بريطانيا وهولندا.
عن «واشنطن بوست»
صفحة قضايا في ملف ( pdf )