تحتفل الجمهورية العربية السورية بذكرى جلاء المستعمر الفرنسي الغاشم في مثل هذا اليوم من كل عام وسط تحديات كبيرة وخطيرة تدركها سورية وتواجهها بعزيمة قوية استلهمتها من إرث نضالي تكرس طوال العقود الماضية وعنفوان أبنائها ورموز الحرية في قائمة طويلة تضم كبار رجالات المقاومة من أمثال يوسف العظمة وابراهيم هنانو والشيخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش وكثيرين غيرهم لم يدخروا جهدا في سبيل رفعة وطنهم وسؤدده وكرامته.
فمنذ انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 وبعد ان نالت سورية والدول العربية استقلالها شرعت الدول الاستعمارية بالكشف عن خططها السرية لاقتسام الدول العربية فيما بينها وشكلت اتفاقية «سايكس بيكو» ضربة قاسية لامال السوريين في استقلال بلادهم فعمت المظاهرات الشعبية أنحاء الوطن معلنة الثورة ضد المستعمر الجديد وصمم أبناء شعبنا على مقاومة أي اعتداء على حدود البلاد فسارعت فرنسا الى اتخاذ القرارات بإرسال حملة عسكرية الى بيروت استعدادا لبسط حكمها على سورية وما لبث الجنرال غورو قائد هذه الحملة ان وجه انذاره الشهير الى الحكومة العربية في دمشق بتاريخ 14 يونيو عام 1920 يطلب فيه قبول الانتداب الفرنسي وتسريح الجيش السوري والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماة، الأمر الذي قوبل برفض واستنكار السوريين الذين اقبلوا على التطوع فامتلأت بهم الثكنات العسكرية واشتد اقبالهم على حمل السلاح للدفاع عن وطنهم وأسرعت الأحياء الى تنظيم قوات محلية للحفاظ على الأمن.
ملحمة ميسلون
وفي ظل هذه الأجواء المضطربة وصلت الاخبار عن تحرك القوات الفرنسية بقيادة غورو نحو دمشق فارضة على الشعب السوري شروطا جديدة اضافية مما حدا بوزير الحربية انذاك يوسف العظمة الى التصدي للقوات الغازية بجيش قوامه اربعمائة جندي ومثلهم من المتطوعين ليخوض معركة الكرامة دفاعا عن تراب الوطن في ميسلون حيث استبسل السوريون في معركة غير متكافئة استشهد فيها البطل يوسف العظمة وعدد كبير من رفاقه دفاعا عن دمشق.
ومنذ اللحظات الاولى للاحتلال الفرنسي لسورية لم تخمد جذوة النضال ومقاومة المحتل الفرنسي الذي عمد إلى تقسيم سورية لعدة دويلات بغية إضعاف وحدة البلاد واثارة النزعات الاقليمية والطائفية وعمل على إلغاء اللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية في المدارس واعتمد سياسة تكميم الأفواه وكبت الحريات والسيطرة على الاقتصاد الوطني وفرض الضرائب المرتفعة على الشعب وتشجيع الاقطاع ولكن الشعب السوري لم يرضخ فقام بثورات عديدة شملت جميع أنحاء البلاد معبرا عن رفضه وتحديه للاستعمار فاشتعلت ثورة الشيخ صالح العلي في جبال الساحل وثورة ابراهيم هنانو في الشمال وثورات اخرى في الداخل وكبّد ابطالها القوات الفرنسية خسائر فادحة.
الطائرات الفرنسية تدك دمشق
ثم اشتعلت نيران الثورة السورية الكبرى في جبل العرب بقيادة سلطان باشا الاطرش لتقدم بدورها قوافل الشهداء رافعة شعار الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، فازداد معها بطش المستعمرين الذين قصفوا بطائراتهم العديد من المدن السورية والعاصمة دمشق التي دمرت فيها احياء كاملة، الامر الذي أثار استنكار السوريين وغضبهم، حتى ان نساء سورية وقفن الى جانب رجالها في جميع الثورات والمظاهرات والاحتجاجات على ممارسات وسياسات المستعمر التي لاقت استنكارا دوليا دفع الاحتلال الى اعلان الدستور عام 1930 ولم يهدأ الشعب السوري رغم الوعود الفرنسية وبقي يناضل لنيل استقلاله وفي 29 مايو عام 1945 قامت الطائرات الفرنسية بقصف دمشق مرة اخرى، فألحقت ضررا جسيما بمبنى المجلس النيابي وقتلت حاميته، ما فجر انتفاضات شعبية عارمة واضرابات طويلة تزامنت مع جهود مكثفة بذلتها سورية على المسرح الدولي حتى صدر القرار بالجلاء الفوري للقوات الفرنسية والذي انجز بشكل نهائي في 17 نيسان «ابريل» 1946 ليصبح ذلك التاريخ العيد الوطني لسورية بعد مرحلة طويلة حافلة بالكفاح والتضحيات التي قدمها الشعب السوري من دمائه وامواله واملاكه.
دروس وعبر
ويشكل الجلاء الذي انجزه رجالات سورية واحرارها في ثوراتهم ومعاركهم التي خاضوها ضد احدى اكبر الدول الاستعمارية في العالم عبرة ودرسا لكل الطامعين، واغنى مسيرة الشعب السوري النضالية وتجلى ذلك في وقوفه الى جانب الشعب العربي في فلسطين ومصر والجزائر ومساندته في مقاومة الاحتلال والسعي لبناء الدولة الحديثة على أسس قوية ومقومات راسخة.
وأثمر الجلاء ايضا العديد من الانجازات المهمة التي تحققت في سورية منذ استقلالها، حيث فتح المجال واسعا امام تقدم البلاد وسيرها بخطى ثابتة وحثيثة للحاق بركب الامم الاخرى وترسيخ العلاقات مع الدول العربية، ولعل اهمها تجربة الوحدة بين سورية ومصر وقيام ثورة الثامن من مارس والحركة التصحيحية المباركة التي قادها القائد الراحل حافظ الاسد عام 1970 وحرب اكتوبر التحريرية التي خاضتها قواتنا المسلحة الباسلة عام 1973 وما افرزته هذه الحرب من مفاهيم جديدة لعل اهمها تحطيم اسطورة «الجيش الذي لا يقهر» وحشد المواقف الدولية الى جانب الحق والقضايا العربية العادلة وتكللت بتحرير مدينة القنيطرة واجزاء كبيرة من قرى الجولان المحتلة التي مازالت تنتظر انضمام باقي اخواتها من قرى الهضبة المحتلة لركب التحرر من نير الاحتلال الاسرائيلي الغاشم لتكتمل بذلك فسيفساء الوطن الزاخرة بالحضارة والتطور والازدهار.
وتشكل الانجازات التي حققتها سورية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتعليمية وغيرها الى جانب الموقع الدولي المهم الذي تبوأته نتائج طبيعية لنضال شعبها المستمر في سبيل حريته واستقلاله.
تغطية خاصة في ملف ( pdf )