ظروف مناخية، اقتصادية،محلية وعالمية اتحدت كلها في وجه الزراعة في محافظة الحسكة التي تعرف بـ «سلة الغذاء» السورية كونها المحافظة الاولى محليا في زراعة القمح وغيره من المحاصيل الاستراتيجية التي كانت سورية رائدة الاكتفاء الذاتي منها.
وسعيا لانقاذ مايمكن، ناشد رئيس اتحاد الفلاحين في محافظة الحسكة خضر المحيسن خلال اتصال هاتفي أجرته معه «الأنباء» بدمشق جميع المسؤولين إلى التحرك باتجاه إنقاذ الواقع الزراعي في محافظة الحسكة الذي نتج عنه تبعات كثيرة ليس آخرها هجرة ما يقارب 200-300 ألف نسمة لقراهم وتوجهوا إلى المحافظات الداخلية مثل دمشق وريفها ودرعا وحمص وطرطوس ولبنان بحثا عن لقمة العيش.
وأضاف المحيسن «هناك قرى تكاد تكون خالية من أهلها لاسيما في مناطق جنوب المحافظة ومن هذه القرى عجاجة، العطالة، عبدان، تل حميس، قرطبة، غرناطة، تميم، فلسطين وقرى كثيرة أخرى».
وأرجع المحيسن عملية الهجرة إلى واقع الزراعة المتردي بسبب الجفاف أولا وارتفاع أسعار المازوت وتحرير أسعار الأسمدة ثانيا، وقال «إذا أرادت الحكومة واقعا زراعيا جيدا نستطيع من خلاله زيادة المنتوجات الاستراتيجية كالقطن والقمح، فعليها أن تعيد أسعار المازوت إلى ما كانت عليه» مشيرا إلى أن منتج القمح تراجع من مليون وثلاثمائة ألف طن إلى ما يقارب 500 ألف طن».
وقال نطلب من الجهات المعنية أن تترك الخطة بالنسبة لزراعة القطن 71 ألف هكتار، والقمح المروي 331 ألف هكتار، وما يفوق المليون بالنسبة للقمح البعل، كما نطلب تخفيض سعر المازوت وعودته كما كان وعندها نتحدى العالم في الزراعة».
وأضاف «تحرير أسعار الأسمدة أدى إلى زيادة أسعارها 300% في بعض أنواعها من 8 آلاف إلى 56 ألف ليرة».
وأضاف «نطلب من الحكومة أن تلتفت إلينا وخاصة وزير الزراعة الذي نطلب منه أن يقوم بجولة ميدانية الى المحافظة التي كانت تسمى المحافظة الخضراء ليراها الآن كيف أصبحت صحراء».
وقال المحيسن «العلاج الحقيقي والسريع جر مياه الفرات أولا لأنه يبعد فقط 80 كم، بينما مياه دجلة تبعد 250 كم وكلفتها كبيرة ومنذ العام 1962 دراسة تعاد ودراسة تعدل ولتاريخه لا يوجد شيء على أرض الواقع»، وتابع «لا نريد مياه الفرات بشكل دائم بل بحاجة إلى 10م مكعب ترفد الخابور من النبع إلى المصب».
وفي السياق نفسه أكدت مصادر في مديرية تربية الحسكة أن حوالي 16% من طلاب مرحلة التعليم الأساسي البالغ عددهم حوالي 320 ألف طالب قد هاجروا مع ذويهم، آخذين معهم أضابيرهم الدراسية بغية إكمال تعليمهم في المناطق التي هاجروا إليها، إلا أن هذه المصادر تؤكد أن نسبة هؤلاء لا تتجاوز 25% في حين تسرب75% منهم من التعليم.
الهجرة التي تكاد تكون قسرية، هي بفعل الظروف الطبيعية التي لا حول للإنسان فيها ولا قوة، وبفعل ظروف أخرى غير طبيعية مرتبطة بقرارات جديدة يرى المعنيون وأهالي المنطقة أنها خاطئة وجانبت الصواب وتركت آثارا سلبية لايمكن تقدير تبعاتها، ولاسيما من ناحية المحاصيل الإستراتيجية، التي تؤكد مؤشراتها الخطرة التراجع الكبير في محصول القمح.
الفلاح إسماعيل الخليف من قرية «رحية كبيرة» قال: «ارتفاع سعر المازوت العام الماضي وموسم الجفاف المستمر لاكثر من عامين أثرا بشكل كبير على تأمين مياه الري للقمح المروي مما أوقعنا في خسارة كبيرة، وكذلك الأمر بالنسبة لزراعة القطن وغيرها من المحاصيل الصيفية فمن سيعوضني عنها؟ وماذا سنعمل في السنوات المقبلة؟ كبرنا ونحن نعمل على زراعات حقلية تتناسب مع أجوائنا ومناخنا وهي زراعة القطن والقمح وقد بدأت حياة الفلاحين في منطقتنا تزداد صعوبة مع تزايد عدد العاطلين عن العمل الذي ادى الى مشكلات اجتماعية خطيرة وبالتالي وجود حالة اجتماعية مزرية وسيئة جعلت بعض قرانا شبه مهجورة بعد ان تركها اهلها بحثا عن لقمة العيش».
هذا الواقع حول المراكز التي حددتها مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل لمبادرة المسح الاجتماعي إلى ساحات من الفوضى والمعاناة للمواطنين الذين سارعوا الى تسجيل اسمائهم وتقديم انفسهم على صور مختلفة من العوز والفاقة ظنا منهم بقدوم خير وفير بعد التسجيل في هذه المراكز.
علما أن الغاية الأساسية من عملية المسح الاجتماعي- بحسب مدير الشؤون الاجتماعية والعمل بالمحافظة- لم تكن توزيع وتقديم رواتب ومعونات مادية إنما الهدف الأساسي يكمن في إقامة قاعدة بيانات أو بنك معلومات اجتماعية يستفاد منها فيما بعد.
الفلاح إبراهيم عبدالعزيز يونس من قرية قليعة يقول: «إن وضع قرانا أصبح سيئا بعد مرور موسمين من الجفاف وبعد توقف كثير من اعمال سقاية القمح والقطن في هذا العام، الأمر الذي دفع إلى تشكل ظاهرة هجرة الأسر إلى محافظات أخرى.
إجراءات حكومية خجولة
وبخصوص الخطوات الحكومية يقول المحيسن: «في الشهر العاشر من العام 2008 قدمت لجنة وزارية إلى محافظة الحسكة لدراسة الواقع الزراعي في المحافظة، وأقرت اللجنة 22 قرارا لم ينفذ منها سوى خمسة، علما أن أبرز قراراتها هي اقراض الفلاحين بغض النظر عن المديونية السابقة لهم، وهذا ما لم ينفذ، بعد ان اعتبرقرار سابق المدينين (مختلسين) ويبلغ عددهم 500 مزارع يلاحقهم القضاء».
وتساءل المحيسن: «كيف يصبح المزارع مختلسا في حين أن الجفاف وارتفاع أسعار المحروقات أديا إلى عجزه عن تسديد الديون المستحقة عليه؟».
وبلغ مجموع الديون بحسب رئيس اتحاد الفلاحين حوالي 5 مليارات ليرة سورية في حين تشير أرقام المصرف الزراعي إلى 11 مليار ليرة سورية.
وأضاف المحيسن: «خلال مهرجان القطن الذي عقد في حلب طلبنا تمديد فترة الاقراض للموسم الصيفي لهذا العام للمدينين الذين شملهم قرار القيادة، وانتهت فترة الاقراض بتاريخ 31-3 ولغاية هذا اليوم لم يصل المقترح فهل من المعقول أن تمتد فترة المراسلة أربعين يوما؟».
ويتداول اهالي المنطقة طرفة عن أن مسؤولا كبيرا في الدولة دعي إلى مأدبة غداء في مطعم سيروب الشهير في مدينة رأس العين، وأثناء الحديث عن ارتفاع أسعار المازوت وتأثيره على المردود الزراعي قال المسؤول مستغربا «ما علاقة المازوت بالزراعة؟».
قصص مأساوية
لم يكن حال الذين هاجروا بحثا عن لقمة العيش أفضل ممن بقي يقاسي مرارة الجفاف والعوز، فقد قدموا إلى مناطق استغل بعض أبنائها حاجة هؤلاء للعمل، بحيث تم استغلالهم من الناحية المادية فضلا عن الكثير من التجاوزات اللاإنسانية واللاأخلاقية، فعلى سبيل المثال لا الحصر «تعرضت بعض الفتيات اللواتي يعملن في مشاغل في منطقة تل كردي بريف دمشق إلى اساءات لا يمكن وصفها، وأخريات تعرضن للاختطاف، هذا فضلا عن حالة الابتزاز المادي والأجر المتدني بحجة الأزمة المالية العالمية».
قصة أخرى يندى لها الجبين فقد لقي أربعة أطفال من عائلة واحدة حتفهم إثر سقوط سقف منزلهم المصنوع من التوتياء في منطقة «خربة الورد» قرب السيدة زينب بريف دمشق، وذلك جراء العاصفة نهاية مارس الماضي.
ذلك ان الرياح القوية فاجأت عائلة علي العسكر من القامشلي المؤلفة من الأب، وزوجاته الأربع، وأبنائه البالغ عددهم 21، وأدت إلى انهيار سقف البيت، المبني من التوتياء والأخشاب، على رؤوس أفراد العائلة، وأسفرت عن قتل 4 من أبنائه، هم محمد 9 سنوات وسيف 8 سنوات وسوسن ومنال 4 سنوات.
مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن المفارقات أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فهذه العبارة تتردد بشكل يومي على ألسنة المسافرين على طريق (الأوتوستراد) بين القامشلي والحسكة حيث تصل هذه الأيام آلاف من قطعان الماشية والأغنام من دير الزور وبادية تدمر بعد الإعلان عن موت الموسم في هذا العام، حيث يباع الدونم الواحد من الزرع الذي لم يكتمل واصفرت أوراقه بـ 500 ليرة لترعاه الأغنام أمام عيون فلاحيه، وتتحول المحافظة السورية الأولى بالزراعة إلى بادية يتجول فيها الرعاة والأغنام.
الإله بعل
تتحدث واحدة من القصص الشعبية في الحسكة عن زيارة سفيرة من إحدى الدول الأوربية إلى المحافظة للتعرف على أسباب ازدياد طلبات الهجرة إلى بلدها، وبعد الزيارة وضعت السفيرة تقريرا لحكومتها مفاده أن الوضع المعيشي يدفع إلى الهجرة، ذلك أن بيوت السكن الترابية في هذه المحافظة تشابه بحالها البيوت والآثار المكتشفة في ذات المنطقة منذ زمن الإله بعل.
صفحة شؤون سورية في ملف ( pdf )