لا شيء بعد اليوم فيما يقوله ويفعله الزعيم الدرزي وليد جنبلاط سيكون مثيرا للدهشــــة والاستغراب، عنصر المفاجأة لم يعد موجودا بعدما كشف أوراقه وأعاد رسم خطه السياسي الذي يوصله حتما الى دمشق. القرار السياسي بالزيارة اتخذه جنبلاط، والزيارة على الأرجح لم تعد مشكلة عند سورية صاحبة «القلب الكبير». المسألة عنده لم تعد مسألة قرار أو توجه سياسي بقدر ما صارت تدرج في إطار «الأخلاقيات» والالتزام الأدبي تجاه حليفه الرئيس سعد الحريري بانتظار زيارته أولا الى دمشق وفتح صفحة جديدة. والمسألة عند الرجلين أضحت مسألة وقت وتوقيت: الحريري يفضل الزيارة بصفته الرسمية رئيسا للحكومة وليس بصفته السياسية زعيما للأكثرية أو لتيار المستقبل. الحريري يزور دمشق بعد زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وجنبلاط يزورها بعد الحريري.
وليد جنبلاط مازال يقف على «أرض 14 آذار» ولكن «رأسه في مكان آخر»، «قلبه» مع 14 آذار و«عقله» مع المعارضة، 14 آذار بالنسبة إليه مرحلة انتهت بعدما تحققت أهدافها الأساسية، والبديل هو التكيف مع الحقائق السياسية الجديدة في المنطقة و«التحوط» لمخاطر ومفاجآت آتية في لبنان والمنطقة عبر حكومة الحرب الإسرائيلية أو عبر المحكمة الدولية أو عبر طرق أخرى. هذه التوجهات والقناعات السياسية كانت بدأت تتكون عند جنبلاط منذ ما بعد 7 مايو وترسخت لديه في فترة ما بين الدوحة والانتخابات، ولكنه كثر عدم المباشرة بالخطوات العملية إلا بعد 8 يونيو حتى لا يكون لموقفه وسلوكه انعكاس على الانتخابات ونتائجها أو حتى لا يساء التفسير والتوظيف انتخابيا وحتى لا يتحمل مسؤولية انفراط عقد 14 آذار ولا يكون سببا في خسارتها الانتخابات. ولذلك التزم جنبلاط مقتضيات التحالف وأظهر كل تساهل وتعاون مع حلفائه المسيحيين، ورغب في تأجيل لقائه مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الى ما بعد الانتخابات. وجاءت نتائج الانتخابات لتحمل مفاجأة فوز ١٤ آذار من دون ان تحمل جنبلاط على اعادة النظر في سياسته الجديدة.
كتلة جنبلاط النيابية تقلصت وصغرت (من 16 الى 11) ولكن دوره السياسي توسع وكبر. في المجلس النيابي بات هو القوة المرجحة ويتمتع بمواصفات «الكتلة الوسطية». وفي الحكومة الجديدة سيكون له دور فاعل وأساسي في اتخاذ القرارات واتجاهات التصويت الى حد ان المعارضة باتت تنظر الى موقف جنبلاط على انه ضمانة من الضمانات التي تبحث عنها ويكاد يكون معادلا في أهميته لـ «الثلث المعطل» أو جزءا منه أو بديلا عنه. وبالإجمال هو صاحب القوة الوازنة التي تتحكم بالأكثرية ونقلها من مكان الى آخر. حلفاء جنبلاط في ائتلاف 14 آذار غير راضين عن سياسته الراهنة ذات الوتيرة السريعة «التصاعدية» في اتجاه سورية، وعن لقاءاته التي تعد مقدمات ممهدة لزيارته المرتقبة الى دمشق بعد فترة انقطاع وعداء ظن كثيرون أنها تجاوزت نقطة اللارجوع، هذه اللقاءات لم توفر الجبهة الشعبية القيادة العامة الموالية لسورية والمتمركزة في قواعد عسكرية خارج المخيمات الفلسطينية لطالما كان جنبلاط في السنوات الماضية الأكثر إلحاحا في الدعوة الى إقفالها.
وبرز فيها قبل يومين اللقاء مع رئيس تيار التوحيد وئام وهاب، الخصم والمناوئ الأبرز لجنبلاط على الساحة الدرزية والشخصية السياسية الأكثر تشددا في المعارضة والأكثر وضوحا وصراحة، وفي وقت يبدو وهاب مزهوا باعتراف سياسي انتزعه من جنبلاط ويفاخر بأن خياراته السياسية ثبتت صوابيتها، وان جنبلاط، وليس هو، من تغير.
فإن جنبلاط مرتاح الى الاختراق الذي حققه في «المعارضة الدرزية» والى «استمالته» لأرسلان ووهاب، كلا على حدة، وتعميق الخلاف الشخصي بينهما رغم خطهما السياسي الواحد.
وبعدما عول جنبلاط على الوزير ارسلان في المرحلة السابقة، خصوصا في مجال ترتيب العلاقة مع حزب الله، فإنه يعول على وهاب في المرحلة اللاحقة ليكون أحد العاملين على خط ترتيب علاقته مع دمشق، خصوصا ان جنبلاط لا يستسيغ العلاقة التحالفية الناشئة بين ارسلان وعون. حلفاء جنبلاط في قوى 14 آذار يحرصون على عدم تفجير العلاقة معه، وحيث لا مصلحة سياسية لهم في ذلك، ويجهدون في إيجاد الأعذار لمواقفه وحتى في إبداء التفهم لظروفه وحاجاته، كما لأدبياته السياسية وطريقته في التفكير والتغيير. ولكنهم مدركون ان جنبلاط في طريقه الى انجاز كل الترتيبات للانتقال الى الضفة السياسية الأخرى، وليكون أحد المساهمين في خلط الأوراق وإعادة تكوين الخارطة السياسية بدءا من الحكومة، متجاهلا ومتجاوزا انتصار 7 يونيو ومسكونا بهاجس وعقدة 7 مايو.