الرئيس المكلف سعد الحريري ليس في أفضل وضع حتى لا نقول انه «في وضع لا يحسد عليه» وهو يخوض أولى تجاربه في الحكم ويسعى الى تشكيل أول حكومة برئاسته، بدأ يشعر بأنها لن تكون «حكومته» وان التوازنات التي تتركز اليها هي توازنات هشة، وان الظروف التي تنشأ في ظلها هي «ظروف غير مستقرة»، ولا تعكس سياسة «الصمت والتكتم» الهدوء والارتياح لدى الحريري بقدر ما تعكس المأزق وحساسية الوضع ودقة العملية الحكومية التي دخلت في «حقل ألغام»، كما يساور الرئيس المكلف شعور «الاستياء والمرارة» نتيجة الضغوط السياسية التي تحاصره من جهتي الخصوم والحلفاء وأدت في محصلتها العامة الى ارباك مهمته واضعاف موقعه وتقييد حركته وهامش المناورة والمفاوضة أمامه، سعد الحريري الذي خرج من الانتخابات بفوز واضح وبلغ منصة التكليف قويا، يخوض عملية التأليف ضعيفا وفي واقع سياسي لا صلة له بنتائج الانتخابات «وكأنها لم تكن».
»الضربة» الأولى التي تلقاها الحريري هي الضربة الأقوى لأنها جاءت من داخل معسكره ومن حيث لم يتوقع، ومهما حاول النائب وليد جنبلاط تلطيف وتجميل مواقفه الأخيرة وجهد الرجلان في «انقاذ» علاقتهما وايجاد صيغة تعاون من ضمن الصيغة الحكومية المتفق عليها، فإن هناك واقعا جديدا يفيد بأن جنبلاط خرج من تحالف 14 آذار وان الأكثرية لم تعد أكثرية، وان مجلس النواب أصبح عبارة عن «أقليتين كبيرتين» تقف في وسطهما كتلة جنبلاط المرجحة، وان الحكومة الجديدة ستكون عبارة عن مجموعة أقليات «أكبرها» كتلة الحريري وحلفائه، وان صيغة «15-10-5» باتت عمليا «12-10-5-3» بعدما تبين ان اللقاء بين الحريري وجنبلاط لم ينته الى تبديد ما يحيط موقع جنبلاط من اشكالية والتباس، وانه انتهى الى نوع من «الغموض البناء» والى صيغة تعايش داخل الحكومة يلتزم بموجبها جنبلاط بالتصويت مع الحريري في المسائل والقرارات العادية، فيما يكون على تناغم وانسجام مع حزب الله في المسائل والقرارات الكبرى والاستراتيجية، أوساط الحريري تنتقد جنبلاط على فعلته التي جاءت «في الوقت الخطأ وبالطريقة الخطأ وأطلقت أيضا من المكان الخطأ، وتعترف ضمنا بأن تحول جنبلاط المفاجئ هو الذي أسهم أكثر من أي شيء آخر في اضعاف موقع الحريري التفاوضي في تشكيل الحكومة وفي افساح المجال للمعارضة كي تمارس ضغوطها وترفع سقف شروطها ومطالبها، ولكن أوساطا في 14 آذار (الطرف المسيحي)، ومع انتقادها اللاذع لجنبلاط وصدمتها الشديدة بما فعله، لا تعفي الحريري من المسؤولية عما آلت اليه الأمور وعن وصول الوضع الى هذا المأزق.
فقد كان هناك شيء من «التفريط بالانتصار الانتخابي وكثير من التساهل مع الفريق الخاسر، ما أتاح له تثبيت مركزه الأول في الحكم (رئاسة مجلس النواب) من دون مقابل وتمرير مسألة التكليف للحريري من دون أي التزامات بتسهيل عملية التأليف، وكان هناك عملية استدراج الى الفخ الحكومي مورست مع الحريري ليصبح في موضع «الابتزاز»، فيما كان عليه ان يتقدم الى رئاسة الحكومة بناء على اتفاق مسبق وان يفاوض مباشرة بعد انتهاء الانتخابات على صفقة سياسية متكاملة وفق مبدأ السلة الواحدة تشمل كل عناوين وترتيبات المرحلة الجديدة: رئاسة المجلس وهيئة مكتبه، رئاسة الحكومة وصيغتها وتركيبتها وبرنامجها، والمفارقة هنا ان هذه الأوساط تلمح الى مسؤولية «للراعي الاقليمي المشترك» الذي رسم اطار المرحلة ومسارها وتصل هذه الأوساط في قراءتها الانتقادية الى حد المطالبة بأمرين: الأول هو «حشر» وليد جنبلاط لتحديد موقعه بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض، ويمكن ان يكون ذلك عبر اجتماع قيادي لـ «14 آذار» تحدد فيه المواقف والسياسات للمرحلة المقبلة ويتبين من خلالها مدى التزام جنبلاط بتحالف 14 آذار وحدود «تموضعه السياسي الجديد»، وما اذا كان يصح احتسابه من ضمن حصة الأكثرية أم لا؟ والأمر الثاني هو «حشر» العماد عون ووضعه أمام الأمر الواقع حتى لو أدى الأمر الى تكرار سيناريو العام 2005 عندما لم يتم التجاوب مع مطالبه وصار احراجه فإخراجه وتشكلت حكومة وحدة وطنية من دونه، والمطلوب من الرئيس المكلف حسب هذه الأوساط ان يخرج كرة الحكومة من ملعبه وان يعد بالتعاون مع رئيس الجمهورية صيغة حكومية على أساس صيغة «15-10-5»، وفي وقت تنهمك أوساط 14 آذار في عملية نقد ذاتي ومراجعة للحسابات واعادة ترتيب للبيت الداخلي، تبادر قوى المعارضة الى استثمار هذا الوضع وما عليه الأكثرية «السابقة» من ارباك واهتزاز، وتتهيأ لرفع درجة الضغوط على الحريري لدفعه الى التجاوب مع شروطها من جهة والتكيف مع الواقع السياسي الجديد الذي أحدثه جنبلاط من جهة ثانية، والتوقف عن «لعبة الوقت والانتظار» من جهة ثالثة.
أوساط في المعارضة تنتقد أولا أسلوب الرئيس المكلف الذي وضع أمام أول امتحان فعلي في حياته السياسية ولا خبرة له في مجال «التقنيات» الحكومية واتخاذ المبادرات، ويخشى ان يفتقد لاحقا القدرة على التأليف اذا ما خرج الوضع عن سيطرته وأفلت زمام المبادرة من يده. فإذا كان أسلوب التكتم والصمت يفيد في أوضاع معينة، فإنه يضر في أوضاع أخرى ويصبح علامة ضعف لا قوة، واذا كان التريث ضرورة في بدايات التأليف بدل التسرع، فإن المطلوب مع بداية انتهاء فترة السماح هو الاسراع في تشكيل الحكومة. وتوحي المعارضة في هذا المجال وبلغة تحذيرية بأن ما هو ممكن ومتاح اليوم قد لا يستمر كذلك، وان صيغة «15-10-5» المتفق عليها اليوم ربما تتجاوزها الأحداث ولا تعود صالحة بعد شهر رمضان، وربما تقدمت صيغ أخرى مثل «10-10-10» وان ما لا يوافق عليه الحريري اليوم طوعا سيضطر الى قبوله مرغما، وبالتالي لا مصلحة له في ذلك، ولا مجال للرهان على عامل الوقت بانتظار ترميم وضع 14 آذار أو بانتظار متغير اقليمي ما، لأن المعارضة مستعدة للانتظار أشهرا واتخذت قرارها بالتضامن مع عون وبأن تدخل مجتمعة الى الحكومة أو تبقى خارجها مجتمعة.
أوساط بارزة في المعارضة تدعو الحريري الى تغيير طريقته وادارته السياسية للوضع وعملية التشكيل: مفاوضة عون بدل مهاجمته، وتقديم أول عروضه الجدية والرسمية بشأن تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب، في الواقع كل المؤشرات تدل على دخول عملية الحكومة «مرحلة الأزمة»، أزمة تذكر من حيث حدتها وعمقها بأزمة 2006-2007 ولكن من دون شارع واعتصامات، أزمة متشعبة في أبعادها الداخلية (أزمة حكم ونظام) وفي امتداداتها الاقليمية، وعملية تشكيل الحكومة مرشحة لأن تطول في حال مراوحة ودوران في الحلقة المفرغة وسط تقاذف الكرة وتضارب التوقعات.