إذا كان الرئيس المكلف سعد الحريري أراد من اعتذاره توجيه رسالة سياسية شديدة اللهجة الى المعارضة بأنه لا حكومة من دونه ولا رئيس للحكومة سواه، وإذا كان أراد باعتذاره إعادة خلط أوراق اللعبة وتحسين شروطه التفاوضية وفي رد التهمة عنه بأنه لا يبادر وبأنه مسؤول عن التأخير الحاصل في تشكيل الحكومة، فإنه نجح في تحقيق هذا الهدف الى حد بعيد. أما اذا كان الحريري يهدف من وراء هذه الخطوة الى نسف الصيغة التي اعتمدت أساسا لحكومة الوحدة الوطنية والتفاوض على أسس وقواعد جديدة للوصول الى صيغ أخرى مثل حكومة أكثرية مطعمة ببعض أقلية، أو حكومة مختلطة تكون مزيجا من سياسة وتكنوقراط، فإنه من الصعب عليه تحقيق هذا الهدف لأن ميزان القوى الداخلي الذي لم يسعفه لتشكيل حكومة على أساس صيغة متفق عليها لا يتيح له تشكيل حكومة على أساس صيغة جديدة غير متفق عليها، خصوصا ان متغيرات سياسية ملحوظة طرأت في الفترة الزمنية الواقعة بين التكليف الأول والتكليف الثاني، من شأنها ان تجعل مهمته ومحاولته الثانية في تشكيل الحكومة أكثر صعوبة وتعقيدا، وليس هناك ما يضمن ان تكون النتيجة في التكليف الثاني أفضل، وان لا تصل مهمة الحريري مرة ثانية الى حائط مسدود. أبرز هذه المتغيرات ذات الصلة والتأثير بالموضوع الحكومي هي (من الداخل والخارج):
- 1 ـ الزخم السياسي الذي خرج به الحريري من انتصار 7 يونيو الانتخابي استنفد جزء كبير منه في فترة الشهرين الماضيين والتجربة الصعبة وغير الموفقة في تشكيل الحكومة.
- 2 ـ الوضع المربك داخل صفوف الأكثرية والناتج بشكل أساسي عن «تحول جنبلاطي باغت الحريري وهو في خضم تشكيل الحكومة وكان سببا في إفراغ صيغة 15 ـ 10 ـ 5 من الأرجحية والتفوق البسيط له فيها، وفي جعل تحالف 14 آذار يقف على أرض سياسية مهتزة. وإذا كان الحريري نجح في إنقاذ هذا التحالف ولملمة أوضاعه، فإن نجاحه هذا ليس كاملا ولا نهائيا لأن جنبلاط الذي يقف في منزلة بين منزلتين يبدو «في الشكل والصورة» مع الأكثرية فيما هو في المضمون والموقف ابتعد عنها وبات أقرب الى حزب الله.
- 3 ـ إضافة الى العلاقة غير المستقرة بين جنبلاط والحريري، طرأ على علاقة الحريري مع حلفائه المسيحيين في 14 آذار «فتور ونقزة» بسبب التشكيلة الحكومية التي قدمها الحريري ورأى فيها هؤلاء الحلفاء (جعجع والجميل) انها مجحفة في حقهم وانها أعطت عون أكثر مما يستحق وأعطتهم أقل من حجمهم ووزنهم كما ظهرا في الانتخابات الأخيرة. وبدا هؤلاء متفهمين للظروف الضاغطة التي يواجهها الحريري ولكنهم لم يقتنعوا بالتبرير الذي أعطاه لهم بأنه أقدم على هذا الكم من التنازلات من باب المناورة وحشر الفريق الآخر لكشفه.
- 4 ـ تراجع أجواء العلاقة بين الحريري وحزب الله قياسا الى ما كانت عليه بعد التكليف الأول عندما حصل لقاء بين الحريري ونصرالله على وقع مواقف الحريري المؤيدة لحكومة وحدة وطنية والداعية الى سحب سلاح المقاومة من التداول، والتي لقيت الاستحسان والاشادة من حزب الله. وقد أدت تطورات ما بين التكليفين الى تجدد أزمة الثقة بين الطرفين: فالحريري مستاء من عدم قيام حزب الله بتسهيل مهمته وامتناعه عن ممارسة الضغط على العماد عون. فيما حزب الله مستاء من رهان الحريري وسعيه للإيقاع بين الحزب وعون وشق صفوف المعارضة، ومن مواقف الحريري التي اتجهت أخيرا نحو التصعيد والتشنج ومهدت لحكومة الأمر الواقع، ثم لخطوة الاعتذار بهدف العودة من موقع أقوى بشروط جديدة.
- 5 ـ توتر في العلاقة بين بري والحريري ناتج عن قراءة مختلفة للمعادلة الحكومية المقبلة، وعن اتهامات متبادلة بالخروج عن التفاهمات وقواعد اللعبة: بري يشترط لإعطاء ثقته مجددا للحريري وإعادة تسميته ان يلتزم بشكل علني وواضح بحكومة وحدة وطنية على أساس صيغة 15 ـ 10 ـ 5، في الوقت الذي يعتبر الحريري (المستاء من دعم بري المشروط له مقابل دعم غير مشروط قدمه له لدى اعادة انتخابه رئيسا للمجلس) انه هو في الموقع الذي يطلب شروطا وضمانات للقبول بإعادة تكليفه لأنه غير مستعد لأن يبدأ من حيث انتهى ولأن يعود الى ما سبق ان رفضه.
- 6 ـ اشتداد التأزم في المنطقة وعلى مختلف الجبهات والملفات المحيطة بلبنان. ففي فترة الشهرين الماضيين حصل تدهور أمني في العراق وانفجرت العلاقة بين سورية والعراق، واندلعت حرب ضارية بين السلطات اليمنية والمتمردين الحوثيين المدعومين من ايران، وتوقف الحوار الفلسطيني في القاهرة بعد جولات فاشلة، وسيطرت ضبابية على الحوار السوري ـ الاميركي، وسجل انقطاع بين السعودية وايران، وتوتر متزايد بين ايران ومصر. وما حصل ان الأولوية أعطيت من جديد للعراق وان لبنان تراجع في سلم الأولويات ليوضع في «غرفة الانتظار» مجددا الى ان تتضح اتجاهات المنطقة وما يدور على جبهتي «الملف الايراني» وعملية السلام.