استشارات التكليف الثاني لم تكن نسخة عما سبق في استشارات التكليف الأول، وانما انطوت على تطورين سياسيين لابد ان يدخلهما الرئيس المكلف سعد الحريري في حسابات التأليف. وعلى الأرجح فإنه واجه هذين التطورين بعدم ارتياح لما يشكلانه من «ضغط وتضييق» عليه، في حين ان التطور الأبرز الذي «أراحه» تمثل في موقف النائب وليد جنبلاط الذي سماه تسمية صريحة غير مشروطة وان جاءت مقرونة خارج حلبة الاستشارات بكلام سياسي عن حكومة وحدة وطنية وعلى قاعدة الـ «15 – 10 – 5» أما التطوران فهما:
الأول: دخول الرئيس ميشال سليمان ومنذ الآن على خط عملية التأليف في جولتها الثانية، ذلك ان «غداء العمل» الذي أقامه للعماد ميشال عون ومعه الوزير جبران باسيل شكل اختراقا شكليا لشريط الاستشارات واختراقا سياسيا للمناخ السياسي الذي يلف عملية تشكيل الحكومة. وهذا اللقاء مؤشر الى ان رئيس الجمهورية، وفي ضوء ملامسة الأزمة الحكومية لـ «الخط الأحمر»، في صدد أداء مختلف عن الجولة الأولى وباتجاه ان يكون مبادرا الى طرح مخارج وأفكار خلاقة للخروج من المأزق بعدما كان اكتفى بدور «الوسيط والاطفائي» في الجولة الأولى، وباتجاه التأكيد على دوره و«حقه الدستوري» في ان يكون شريكا أساسيا في التأليف في اطار التعاون مع الرئيس المكلف، بحيث ان الرئيس سليمان الذي حدد سقفا لموقفه السياسي الوطني بألا يوقع على مرسوم حكومة لا تستوفي شروط ومواصفات حكومة وحدة وطنية وحكومة ميثاقية، يحدد في موازاة ذلك سقفا لدوره السياسي الوطني الذي يعتزم القيام به في سياق الدفع باتجاه قيام مثل هذه الحكومة واخراج البلاد من الأزمة الحكومية التي باتت مصدر تهديد للاستقرار السياسي والأمني في البلد. وفي الواقع، يكمل الرئيس سليمان ما كان بدأه قبل اعتذار الحريري الذي لم يمهله ولم يستجب لطلبه بتأجيل الاعتذار لأيام افساحا في المجال أمام معالجات كان سليمان نسج خيوطها مع الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط وأبرزها ما يتعلق بمعالجة عقدة «الاتصالات وباسيل». فكان ان اعتمد سليمان التشكيلة الحكومية التي اقترحها الحريري قاعدة للتفاوض مع ادخال تعديلات محددة عليها لتصبح مقبولة من الجميع، واقترح حلا للعقدة على أساس ان تصبح وزارة الاتصالات من ضمن حصة رئيس الجمهورية على ان تعود وزارة الأشغال الى جنبلاط مقابل ان يتم توزير جبران باسيل، أي تسوية «لا غالب ولا مغلوب»، فيكون الحريري حصل على نصف ما يريد بأن أقصى عون عن وزارتي الداخلية والاتصالات، ويكون عون حصل على نصف ما يريد بأن أفشل محاولة اخراج باسيل من الحكومة. وبالتالي بقدر ما شكل «غداء العمل» مؤشرا الى تحسن في أجواء العلاقة بين سليمان وعون، خصوصا بعدما «تنازل» عون عن الداخلية وفك الاشتباك الحكومي مع سليمان، فإنه شكل مؤشرا الى عودة باسيل الى الحكومة والى عدم وجود ڤيتو لدى سليمان على هذه العودة أو على توزير الراسبين في الانتخابات.
الثاني: انخراط الرئيس نبيه بري بالكامل في موقف المعارضة متخليا عما كان أقدم عليه في التكليف الأول من تمايز عن المعارضة ومن مسايرة للحريري (الذي صوت له في انتخابات رئاسة المجلس).
وأهمية موقف بري لا تكمن في انه خفض الرقم الذي سيحصل عليه الحريري من 86 إلى 71 نائبا، وانما في انه شكل مؤشرا الى عودة الوضع السياسي الى ما كان عليه قبل الانتخابات من «فرز واصطفاف سياسي حاد» بين فريقين، والى تبدد ما كان بري نفسه بشر به وروج له من خلط أوراق وذوبان فريقي 8 و14 آذار، وتبدد رهان جنبلاط على ملاقاة بري له في منتصف الطريق. وعودة الوضع السياسي الى ما كان عليه يعني عودة أجواء التشنج الى «الشارع» الطائفي والمذهبي. وفي وقت تسود أجواء استياء في الشارع السني من موقف بري الذي لم يرد على تحية الحريري بالمثل عندما محضه التأييد غير المشروط في انتخابات رئاسة المجلس، فإن بعض أوساط الحريري تعترف متأخرة بخطأ سياسي حصل عندما أعطى الحريري تأييده لبري من دون شروط، وعندما لم يعتمد مبدأ الاتفاق الشامل ضمن السلة الواحدة على كل استحقاقات وترتيبات ما بعد الانتخابات. يعتبر الرئيس بري ان الحريري، وليس هو، من غير في الموقف وسلك وجهة جديدة. فموقفه في استشارات التكليف الأول جاء مشروطا بتشكيل حكومة وحدة وطنية، والحريري هو الذي تراجع عن «حكومة الوحدة» وبادر الى تصعيد مبرمج باقتراح تشكيلة الأمر الواقع ومن ثم الاعتذار السريع والتلويح بشروط جديدة في التكليف الجديد، وهو الذي عاد الى لغة الأكثرية والأقلية والتهديد باستبعاد من لا يسميه. ولما كان بري ينتظر من الحريري موقفا واضحا بالتزام حكومة وحدة وطنية على قاعدة 15 ـ 10 ـ 5 ولم يصدر مثل هذا الموقف، فإنه في حل من التزامه بتأييد الحريري وتسميته. ولكن الحريري له وجهة نظر مضادة، هو يعتبر انه فعل كل ما عليه وما يستطيع لتشكيل حكومة وحدة وطنية على قاعدة 15 ـ 10 ـ 5 ووصلت جهوده الى حائط مسدود بسبب تعنت المعارضة، ووصل هو الى قناعة بأن المعارضة لا تريد تشكيل الحكومة وانه لا يمكنه الاستمرار في هذا الوضع الذي يعرضه للاستنزاف والابتزاز، فقرر المبادرة من طرف واحد الى خلط الأوراق. ويعتبر الحريري أيضا ان عملية الحكومة دارت دورة كاملة لتعود الى نقطة البداية، وان عودته بأصوات الأكثرية النيابية تجعله في حل من التزاماته السابقة حيال المعارضة.
وهكذا فإن صيغة الـ 15 ـ 10 ـ 5 تجاوزتها الأحداث ولم تعد صالحة والتشكيلة الحكومية التي اقترحها متضمنة تنازلات للمعارضة فاجأت أنصاره وحلفاءه أكثر من خصومه، باتت في حكم الملغاة كأنها لم تكن، والتأليف الثاني سيكون مختلفا في الأسلوب وقواعد التفاوض وبما يعيد الاعتبار من جهة الى نتائج الانتخابات وواقع وجود أكثرية وأقلية، ويؤكد من جهة ثانية على حق وصلاحية رئيس الحكومة في عملية التأليف، تركيبة وحقائب وأسماء. أوساط المعارضة لا ترى ان بإمكان الحريري ان يبدأ في التكليف الثاني من حيث بدأ في التكليف الأول، وان «مناورة» الاعتذار وإعادة التكليف ترد الملف الحكومي الى نقطة الصفر. وتبدو هذه الأوساط متيقنة من أمرين: الأول ان الحريري بات ملزما بصيغة 15 ـ 10 ـ 5 والتي هي حصيلة توازن داخلي واقليمي ولا يمكنه الخروج منها في اتجاه أي صيغة أخرى سواء كانت تكنوقراط أو أقطاب، كما لا يمكنه التعديل في هذه الصيغة لأن أي توجه من هذا القبيل سيحمل المعارضة على تعديل مماثل والعودة للمطالبة بـ «الثلث المعطل». والأمر الثاني ان الحريري سيبدأ محاولته الثانية من حيث انتهى في المحاولة الأولى، وسيكتشف ان ما طرحه من تشكيلة حكومية ستكون هي أساس التفاوض الذي ستنطلق منه المعارضة لتكريس ما حصلت عليه ولتعديل ما ترفضه. ولكن الأهم في قراءة المعارضة هو الربط الذي تقيمه بين تصعيد الحريري وتطورات اقليمية تزامنت معه ويمكن ان يكون استقوى بها من إعادة تحريك المحكمة الدولية الى الأزمة العراقية ـ السورية وتوقف الاتصالات السعودية مع سورية، وما لكل ذلك من علاقة بانتهاء شهر العسل الاميركي ـ السوري، قبل ان يبدأ.