أعيد تكليف الشيخ سعد الحريري لتشكيل ورئاسة حكومة ما بعد الانتخابات، وهذا ما كان متوقعا ومحتما، اذ لا خيار آخر ولا مرشح آخر لرئاسة الحكومة في ظل «شبه اجماع سني والتفاف» حول سعد الحريري، وزعامته تجاوز ما كان عليه الحال أيام والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وأي مرشح آخر لرئاسة الحكومة «لا يمر» إلا بدعم سعد الحريري أو على الأقل بموافقته وضوئه الأخضر، وسيكون ملتزما السقف السياسي الذي حدده الحريري للحكومة المقبلة سواء ما يتصل بدور وصلاحيات رئيس الحكومة أو نتائج الانتخابات والواقع السياسي المتصل بها. ولكن التكليف الثاني يختلف عن الأول في أمر أساسي، ليس انحسار الأصوات النيابية (من 86 الى 73) وانما في افتقاره الى التغطية الشيعية. ولا يخفف من هذا الأمر ووقعه السلبي تأكيد حزب الله وحركة أمل على التعاون مع الرئيس المكلف، ولا تجاوز أو تجاهل الرئيس المكلف لموقف الثنائي الشيعي أو التقليل من شأنه الى حد التعبير عن ارتياح لموقف أراحه من التزامات وقيود وحدد اتجاهات الحوار. «استعاد الحريري زمام التكليف» الذي تتحكم به الأكثرية، ولكنه لم يستعد زمام التأليف الذي تتحكم به عوامل وجهات متعددة داخليا وخارجيا. وما يزيد في حدة الأزمة الحكومية التي تشابكت فيها خيوط الداخل والخارج وزادت صعوبة وتعقيدا في ظل مسار إقليمي غير مساعد، انها «حشرت» في زاوية الخيارات الصعبة والمتعذرة، وان أطرافها حشروا أنفسهم في وضعية جامدة: عدم القدرة على التقدم. ولا على التراجع. وهذا ما يتبين من خلال استعراض سيناريوهات واحتمالات «التأليف الثاني» التي لا يخلو أي منها من صعوبات وعقد:
-
1 - العودة الى صيغة «15 – 10 – 5» باعتبارها الصيغة الأكثر ملاءمة مع واقع التوازن السلبي الذي استمر بعد الانتخابات، وكونها تحظى بتوافق داخلي وحد أدنى من تغطية اقليمية ومشمولة بالتفاهم السوري - السعودي. وهذا يعني ان يستأنف الحريري عملية تشكيل الحكومة من حيث توقفت قبل اعتذاره، وان تتحول الجهود المركزة في اتجاه تدوير الزوايا وتذليل العقد التي حالت دون نجاح التجربة الأولى. ومن الممكن ان يتم ذلك انطلاقا من ورقة تفاوضية موجودة هي التشكيلة الحكومية التي رفعها الحريري الى رئيس الجمهورية والتي يمكن اعتمادها أساسا للحوار ولكن بهدف ادخال تعديلات عليها في الحقائب والأسماء وبالاتجاهين لأن الاعتراض على هذه التشكيلة لا يقتصر على فريق المعارضة وانما يتعداه الى فريق الأكثرية .
ولكن العودة الى معادلة «15 – 10 – 5» تتوقف على ثلاثة عوامل واعتبارات: الأول هو استعداد الطرفين لتقديم تنازلات متبادلة لأن العودة الى المواقف والشروط نفسها يوصل الى النتيجة نفسها، الى الحائط المسدود. والثاني هو قيام حركة وقوة سياسية ضاغطة في اتجاه تعويم هذه الصيغة وايجاد مبادرات وأفكار خلاقة للخروج من المأزق، على ان يقود هذه الحركة الرئيس ميشال سليمان مدعوما من جنبلاط بشكل أساسي وكلاهما مازالا يريان في هذه الصيغة الأساس الأنسب لحكومة الوحدة الوطنية، ومن هذه الأفكار ما يتردد عن الحاق وزارة الاتصالات بحصة رئيس الجمهورية مقابل اعادة الأشغال الى جنبلاط أو اعطاء وزارة الاتصالات الى وزير الطاشناق الذي يحسب عمليا من ضمن حصة رئيس الجمهورية بعدما رسم الحزب الأرمني خطا سياسيا مستقلا ومتمايزا عن المعارضة و«وسطيا بامتياز».
والثالث: قبول الرئيس المكلف سعد الحريري بالعودة الى صيغة «15 – 10 – 5»، اذ انه لم يعلن التزاما واضحا ورسميا بهذه الصيغة بعد اعادة تكليفه ولم يعرف ما اذا كان التغيير الذي سيدخله على عملية التأليف الثاني يقتصر على قواعد التفاوض والأسلوب والتكتيك للتصرف على النحو الذي كان يجب ان يحصل بعد الانتخابات، أو انه يطول صيغة الـ 15 – 10 – 5 لنسفها واعادة البحث الى نقطة الصفر والى منطق «أكثرية وأقلية».
-
2 - تجاوز صيغة «15 ـ 10 ـ 5» والتشكيلة الحكومية التي اقترحت على أساسها الى صيغة جديدة و«خلطة حكومية» جديدة بالحقائب والأسماء على ان تتبلور الصيغة البديلة مع الوقت وبعد ما يكون الرئيس المكلف فرغ من اجراء مشاوراته واتصالاته بعد عطلة عيد الفطر.
الرئيس المكلف سعد الحريري يتفادى منذ اعتذاره واعادة تكليفه تقديم أي التزام واضح بصيغة الـ 15 ـ 10 ـ 5 ربما هو يميل الى اهمالها ووضعها جانبا لأنه وجد انها لم تعد تتناسب مع طبيعة المرحلة أو انها لا تتناسب مع نتائج الانتخابات، وكان من أهداف اعتذاره نسف هذه الصيغة والتحرر من أعباء التزامات وجد انها من طرف واحد، وربما لا يريد ان يقيد نفسه في التكليف الثاني بأي صيغة ولا ان يضيق هامش الحركة والمناورة التفاوضية أمامه، ولذلك لا يعلن التزامه بصيغة الـ 15 ـ 10 ـ 5 كقاعدة حصرية لحكومة وحدة وطنية، وانما يطرح الحوار حول الحكومة من دون شروط مسبقة هذه المرة.
ولكن المعارضة ترهن انطلاق عملية التشكيل بشرط مسبق و«مفروغ منه» هو التزام الحريري بهذه الصيغة ليتم بعد ذلك الدخول في مرحلة الحقائب ثم الأسماء.
ثمة توقعان فيما سيقدم عليه الحريري:
-
- الأول يقول ان الرئيس المكلف ليس في وارد الانقلاب على صيغة 15 ـ 10 ـ 5 والدفع في اتجاه «حكومة اللون الواحد» أو «حكومة بمن حضر»، لأنه مدرك ان هذه الصيغة هي نتاج توافق وتوازن دقيق، ومدرك للمخاطر الناجمة عن الاخلال بها، اذ سيفتح الوضع على فراغ حكومي طويل الأمد وأزمة مفتوحة على شتى الاحتمالات، كما انه مدرك ان حكومة أكثرية أو ما شابه ستصطدم أولا بموقف ممانع للرئيس ميشال سليمان الملتزم بموقف «عدم توقيع مرسوم حكومة غير ميثاقية» وبموقف غير داعم من جانب جنبلاط الملتزم بتحالفه مع الحريري والحريص في المقابل على عدم نسف الجسور التي استحدثها مع حزب الله، وبالتالي فإن الحريري ابتعد عن صيغة 15 ـ 10 ـ 5 ملوحا بالبدائل لا ليسقطها وانما ليحاول تحسين شروطه التفاوضية من خلالها.
-
- الثاني يقول ان الحريري لم يعتذر ليعود الى الوضع السابق وهو جاد في البحث عن قواعد جديدة للتفاوض بعدما اكتشف انه وقع في أخطاء المحاولة الأولى ما أدى بالنتيجة الى ان يحشر نفسه ويريح خصومه والى تبادل أدوار ومواقع بين الأكثرية التي لم تتصرف كفريق رابح في الانتخابات وانما تصرفت بخجل وبأن أحجمت عن استثمار انتصارها الانتخابي وترجمته الى مكاسب سياسية وحكومية، وبين المعارضة التي لم تتصرف كفريق خاسر وانما اكتفت بالاعتراف بخسارتها للانتخابات من دون ان تعترف بنتائجها السياسية.
وما سيحاوله الحريري في التجربة الحكومية الثانية، تصحيح أخطاء التقدير والأداء وأسلوب التفاوض، وهو ما لا يمكن ان يفعله الا بكسر الصيغة التي قيدته وأفقدته قدرة التحكم بعملية تشكيل الحكومة، ومن دون الانزلاق الى «حكومات الأزمات» والخروج على قواعد اللعبة والتوازنات، فإن البدائل والمخارج الحكومية المطروحة في سياق خلط أوراق التشكيل محصورة في طرحين:
- «حكومة أقطاب» تكون نسخة منقحة عن طاولة الحوار الوطني.
- «حكومة تكنوقراط» (تقنية أكثر مما هي سياسية) تعهد اليها مهمة تسيير شؤون الدولة والناس، فيما الملفات السياسية «الخلافية» تحال الى طاولة الحوار الوطني التي يعاد احياؤها وتركيبها.
ولكن عقبات كثيرة سياسية وعملية تجعل قيام أي من هاتين الحكومتين أمرا صعبا ومتعذرا، وفي هذه الحال نكون أمام واقع استمرار الأزمة الحكومية واستمرار حكومة تصريف الأعمال برئاسة السنيورة حتى اشعار آخر، وهذا يفترض تفعيل هذه الحكومة لتعمل بأقصى طاقتها، وايجاد ضوابط للأزمة الحكومية تحول دون انتقالها الى الشارع وتفصل بين السياسة والأمن، ويبدو ان هذا الواقع غير مزعج لأي من الطرفين، وانه لا مصلحة لأي طرف في اطاحته وقلب الطاولة اذا لم تكن البدائل جاهزة.