في معركته الحكومية التي يخوضها في ظروف صعبة وضاغطة من جراء الخلل الطارئ في ميزان القوى الداخلي بعد الانتخابات، اضطر الرئيس المكلف سعد الحريري الى خفض سقف طموحاته وتوقعاته والى انتهاج سياسة الحد من الخسائر والخروج بأقل خسائر ممكنة بدل سياسة جني المكاسب وتحصيل أكبر قدر ممكن من الأرباح. وفي الواقع فإن خيارات الحريري ليست بين «جيد وسيئ» وانما بين «سيئ وأسوأ»، وهو الذي يقف حاليا بعد خمسة أشهر من أزمة التأليف أمام خيارين اثنين يحاول هو ان يوجد ثالثا لهما:
الخيار الأول: ان يمضي قدما في حكومة الوحدة والشراكة على أساس صيغة الـ «15 – 10 - 5»، مع ما يعنيه ويتطلبه ذلك من تقديم تنازلات الى المعارضة وتلبية شروطها للمشاركة في الحكومة. وهذه الشروط باتت محددة ومختصرة على النحو التالي: ابقاء القديم على قدمه (بما في ذلك وزارة الاتصالات). أو المداورة الشاملة (خلط أوراق الوزارات السيادية والأساسية).
الخيار الثاني: ان يبادر، في حال استشعر عملية «مماطلة وابتزاز» وعدم قدرة لديه على اعطاء المعارضة ما تريد والخضوع لشروطها، الى وضع تشكيلة حكومية تتمتع بمواصفات حكومية ميثاقية عبر مراعاتها الاعتبارات والتوازنات الطائفية من دون تمثيل كل القوى السياسية. وفي خطوة ترمي الى اخراج كرة الحكومة من ملعبه، يقوم الحريري بتقديم هذه التشكيلة لرئيس الجمهورية لتوقيعها فتصبح حكومة «أمر واقع دستورية» أو لرفضها لأنها غير قابلة للحياة، ولا يكون أمام الحريري الا الاعتذار مرة ثانية. وتتدحرج الأزمة نزولا من أزمة تأليف الى «أزمة تكليف».
أيهما الخيار الأفضل أو الأقل سوءا؟
في الدوائر والأوساط القريبة من الحريري والدائرة في فلكه، يجري بحث معمق في الخيارات المتاحة والمفاضلة فيما بينها لترجيح كفة الخيار الذي تغلب فيه الايجابيات على السلبيات، وسط انطباع عام بأن هامش المناورة والقرار ضاق كثيرا قياسا بما كان عليه قبل أشهر.
وبالإجمال تبرز الآراء والتوجهات التالية:
- 1 - رأي يدعو الحريري الى حزم أمره وأخذ القرار بتشكيل حكومة «أفضل الممكن» حتى لو قاده هذا القرار الى الاعتذار ثانية، فيعود بشروطه هذه المرة أو يبتعد عن رئاسة الحكومة بعدما يكون أدرك انه ليس هذا الوقت المناسب لادارة دفة الحكم بشكل شخصي ومباشر في ظل أوضاع ومعادلات تقيد حركته وتشل قدراته وتجعله رهينة وعرضة لابتزاز دائم.
- 2- رأي ثان يعتبر ان أمام الحريري هدفا رئيسيا ومركزيا يجب تحقيقه وهو تشكيل الحكومة أيا تكن الصعوبات و«التنازلات» لأن هذه هي فرصته للوصول الى السرايا، ولأن أي حكومة برئاسته ستكون أفضل من أي حكومة برئاسة غيره مادام ستكون له فرصة التأثير في مجريات الأمور وتحسين أوضاعه لاحقا، ومادام هناك امكانية لحصول خلط أوراق في اللعبة الداخلية وتغيير في قواعد اللعبة.
أصحاب هذا الرأي يعتبرون ان الحريري لم يعد بإمكانه العودة الى الوراء وليس أمامه الا التقدم الى الأمام، ولو أخذ تقدمه شكل مغامرة أو مخاطرة سياسية.
وخيار الاعتذار سيكون خطوة الى الوراء وبمثابة ضربة موجعة لقوة 14 آذار أو ما تبقى منها، وكذلك لزعامته السياسية التي انطلقت بحجم وسرعة قياسيين. وباختصار، فإن الأضرار والخسائر التي يمكن ان تترتب على الاعتذار والانكفاء تبقى أكبر وأشد وطأة من الأضرار التي ستترتب على «دفع أثمان» لتشكيل الحكومة.
- 3- بين هذين الرأيين، يتحرك رأي «وسطي» فحواه ان على الحريري، بين تقدم مكلف وتراجع أكثر كلفة، ان يستمر في سياسة المناورة وكسب الوقت أطول مدة ممكنة، ومتى استطاع الى ذلك سبيلا، في انتظار ان تتوافر ظروف أفضل وأكثر ملاءمة تتيح له ترجمة واقع انه يملك الأكثرية النيابية والزعامة السنية، وان تتوافر قناعة لدى خصومه بأنه هو «العقدة والحل» في آن، وانه اذا كان لا حكومة من دون معارضة فإنه أيضا لا حكومة من دون الحريري رئيسا.
في حسابات «الخيار الوسطي» ان الحريري «يصمد» في موقفه الراهن، فلا يشكل رغما عنه ولا يعتذر بإرادته، الى حين يصبح تشكيل الحكومة ممكنا بتنازلات من الجانبين ومعقولة من جانبه، فلا يكون التنازل للمعارضة على حساب انتصاره الانتخابي، ولا يكون ارضاء عون على حساب حلفائه المسيحيين.
هل يتخلى جنبلاط عن «الأشغال»؟!
الى جانب سؤال دائم مطروح منذ بداية الأزمة الحكومية: هل يتخلى العماد ميشال عون عن وزارة الاتصالات؟ يطرح منذ أيام سؤال آخر جديد: هل يتخلى النائب وليد جنبلاط عن وزارة الأشغال؟ وهل تكون المقايضة بين الاتصالات والأشغال مخرجا للأزمة؟ مصادر الحزب التقدمي الاشتراكي أكدت أن النائب وليد جنبلاط أبلغ الحريري رسميا، يوم السبت الماضي، رفضه التنازل عن حقيبة الأشغال مقابل «الاتصالات أو غير الاتصالات»، وقال إنه فيما يخصه سهل الأمور عبر تأكيد استعداده للتنازل عن حقيبة المهجرين التي لطالما أكد عون عدم رضاه عن العمل فيها.
ورفض جنبلاط أن يصار إلى دفع الأمور باتجاه إحراجه في موضوع وزارة الأشغال العامة عبر استبدالها بوزارة الاتصالات، وقال لمن اتصلوا به انه يرفض إسناد «الاتصالات» لأي من وزرائه، لاعتبارات تتعلق بالأمن والتنصت ولأنه لا يريد من خلال تحفظه على موضوع الخصخصة أن يدخل في مواجهة مع أحد، «لذلك أتمنى عليكم أن تبعدوا هذه الكأس المرة عني».
ورفض جنبلاط محاولة تصويره في خانة المعرقل لتشكيل الحكومة من خلال رفضه لحقيبة الاتصالات، مطالبا بوضع سلة حكومية متكاملة.
وكانت معلومات وردت الى جنبلاط بأن عون بالاتفاق مع حزب الله قرر المطالبة بالأشغال، وعلى ان يتعاون قادة المعارضة على الاتصال برئيس «التقدمي» لإقناعه بالفكرة، فتولى أحد قياديي حزب الله الاتصال بجنبلاط ودعاه الى تسهيل مخرج حصول عون على الأشغال لكن جنبلاط لم يبد حماسة للفكرة.
وأوضحت مصادر قريبة من جنبلاط انه في الوقت الذي تبين ان الاقتراح جاء من العماد عون وليس من الحريري، فإن قادة المعارضة كانوا اتفقوا على تكثيف الاتصالات مع جنبلاط، والعمل على خط علاقة الصداقة بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري مع جنبلاط لإقناع الأخير بالتخلي عن الأشغال لعون.
وإذ اجتمع مسؤول الاتصالات السياسية في «التيار الوطني» الوزير جبران باسيل مع بري ظهر امس، فإن مصادر المجتمعين نفت ان يكون باسيل طلب تدخل بري لدى جنبلاط للتخلي عن الأشغال، وقالت ان باسيل «نقل انفتاح عون على الأفكار البديلة التي تطرح وحرصه على التنسيق مع بري». وفي رأي مصادر في المعارضة ان اقناع جنبلاط بالتخلي عن «الأشغال» ليس صعبا ولا مستحيلا اذا كان للتموضع الجديد لرئيس الحزب الاشتراكي ان يكتمل لأنه يكون بذلك قد زاد على لائحة الانفتاح على دمشق بندا أساسيا وكبيرا على طريق التطبيع معها، «خصوصا ان سورية كما أصبح واضحا تريد ان ترى قيام حكومة وحدة وطنية في لبنان في أسرع وقت ممكن».