خاض الرئيس المكلف سعد الحريري في أول تجربة حكومية له مفاوضات شاقة ومتعرجة أتاحت له التعمق أكثر في تعقيدات ودهاليز الوضع اللبناني ومراكمة خبرة سياسية يعوزها. وهو سيكون أخيرا رئيسا لحكومة وحدة وطنية تبدو أقرب الى حكومة «مساكنة قسرية»، بعد تأخير دام نحو خمسة أشهر هي الفترة الفاصلة عن الانتخابات التي حقق فيها الحريري انتصارا واضحا ولكنه لم يستطع ان يترجم هذا الانتصار حكوميا، لا بل اكتشف تباعا انه أسير وضع معقد ومعادلة دقيقة وميزان قوى سياسي ميداني لا يتطابق مع نتائج الانتخابات، الأمر الذي اضطره الى خوض «قتال تراجعي»، والى خفض تدريجي للسقف الحكومي الذي حدده وتحديدا في حصة العماد ميشال عون.
وهكذا، فإنه بعد جولة أولى انتهت الى الاعتذار، أدرك الحريري واقع المعادلة التي تحكم تشكيل الحكومة والاطار الذي يعمل من ضمنه: حكومة الـ 15 ـ 10 ـ 5 ثابتة ولا سبيل للخروج منها أو ابدالها، «الاعتذار ثانية» شبه مستحيل «لأنه يضع كل مستقبله السياسي» على المحك، الوضع من دون حكومة لا يمكن ان يستمر طويلا ولا يمكن درء مخاطر وتبعات محتملة، عامل الوقت لا يلعب بالضرورة لمصلحة الأكثرية داخليا واقليميا، ولا يمكن الدخول في عملية رهان أو انتظار لمتغيرات قد تأتي وقد لا تأتي، والأهم عمليا ان الرئيس المكلف تحول الى التعامل بجدية مع معادلة ان «لا حكومة من دون معارضة ولا معارضة من دون عون»، فتحول اهتمامه في اتجاه محدد هو البحث عن صيغة لإرضاء العماد عون من دون تعريض وضعه ومكتسباته ونتائج الانتخابات وعلاقته مع حلفائه، لاسيما المسيحيين بينهم، لخطر الضياع.
في مراحل التفاوض المضني والتأليف الصعب، واجه الحريري ثلاث «مفاجآت» لم يتوقعها وصدمته بنسب متفاوتة: الأولى جاءته من أقرب حلفائه وليد جنبلاط الذي اختار، طوعا أو قسرا، توقيتا سياسيا لتنفيذ قفزته السياسية غير ملائم وغير مساعد للحريري، لا بل كان توقيتا سيئا ومسيئا ولم يعد ينفع بعد ذلك ما أقدم عليه جنبلاط من تخفيف وتوضيح، وما أبداه من استياء وتململ لأن حزب الله بدل ان يلاقيه في منتصف الطريق عمل على استغلال موقفه وتوظيفه في مفاوضات الحكومة والتعاطي معه على انه اشارة ضعف.
أما المفاجأة الثانية فقد جاءت من الرئيس ميشال سليمان الذي لم يجار الحريري في تشكيلته الأولى بعدما كان شجعه وأوحى له بعرض تصور حكومي له قبل سفره الى نيويورك، والذي بعد عودته من نيويورك اندفع في مواقف ورسائل ايجابية في اتجاه سورية وحزب الله بعدما كانت المعارضة اتخذت من موقفه من الحكومة عبر تأكيده المتكرر انه لن يوقع الا على مرسوم حكومة وحدة وطنية مرتكزا وغطاء للتشدد وممارسة الضغط على الرئيس المكلف حتى الوصول الى حكومة بشروطها.
أما المفاجأة الثالثة فإنها جاءت من الرئيس نبيه بري الذي، بعد احجامه في المرة الثانية عن تسمية الحريري لرئاسة الحكومة رغم ان الحريري أعطاه أصواته لرئاسة المجلس، اتخذ موقفا فاق التوقعات في التزامه موقف المعارضة المتضامن مع عون والرافض لمحاولات اضعافه وكسره، بري الصائم عن الكلام عرف كيف يمرر عبر أقنية سياسية اشارات تفيد بأنه يتفهم مطالب عون ويراها محقة وينصح بالتفاهم معه، وبأن لا سبيل للخروج من المأزق واخراج الحكومة الى العلن الا التفاهم مع عون وتلبية ما يريده، وأي طريق آخر لا يوصل الى نتيجة.
المفاجأة الجيدة أو الايجابية بالنسبة للحريري جاءت من الجهة التي لم يكن يتوقعها، من النائب سليمان فرنجية الذي عرف كيف يبني وبسرعة قياسية علاقة ثقة مع الحريري ويكسب وده، وكيف يتحول الى «وسيط أو ناشط أساسي» على خط الرابية ـ قريطم، اضافة الى مهمته الأساسية المتعلقة بمرحلة ما بعد الحكومة على خط دمشق ـ قريطم، فقد أهدى فرنجية الحريري ورقة تفاوضية ثمينة عندما قرر التنازل عن الحقيبة الوزارية ولم يضع هذه الورقة في يد عون لاستخدامها بما يناسبه في مفاوضاته مع الحريري، كما أبدى فرنجية تعاطفا مع الحريري وعزف على وتر حساس عندما صرح بأنه لا يقبل ان ينكسر رئيس الحكومة. وهكذا تحول فرنجية بين ليلة وضحاها وفي الفترة التي تلت القمة السورية السعودية الى «صاحب دور محوري» في عملية التأليف ليضطلع بمهمة تدوير الزوايا والوصول الى حلول وسط لا يكون فيها غالب ومغلوب، وآخر الصيغ التي توصل اليها وتفتح الطريق أمام ولادة الحكومة: ان تكون حصة العماد عون أربع حقائب وزارية هي الاتصالات والطاقة والعمل والشؤون الاجتماعية أو المهجرين، لكن هذه الصيغة لا تخلو من «لغم» هو ان الاتصالات ليست للوزير جبران باسيل الذي ينتقل الى وزارة الطاقة، فيما العماد عون مازال مصرا على ان تكون وزارة الاتصالات لباسيل وألا يكون تدخل في تسمية وزرائه كما هو حاصل مع كل الأفرقاء.
المصادر القريبة من عون تؤكد: الاتصالات لباسيل ولا حكومة من دون ذلك، الرئيس المكلف أخذ وقتا للموافقة على توزير باسيل، وأخذ وقتا للموافقة على بقاء الاتصالات ضمن حصة الجنرال، ويبدو انه بحاجة الى وقت للموافقة على «باسيل في الاتصالات».