د.سامر أبورمان
حين تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر في جامعة عراقية بإقليم كردستان كدت أن أعتذر لطلبات السفارة العراقية بالكويت، حتى علمت من إدارة الجامعة أنه لا علاقة لحكومة بغداد أو المركز - كما يقول أهل كردستان عن الحكومة العراقية - بتأشيرتي!
وتسلمت التأشيرة الالكترونية عبر الايميل وأستطيع السفر على أى من مطاري كردستان الدوليين (السليمانية أو أربيل)!
ما ان تصل لمنطقة كردستان حتى تلحظ بسهولة الفرق بين هذين الكيانين - الكيان الكردستاني والكيان الوطني العراقي - فعلم الإقليم ينتشر في كل مكان بطرق جمالية وإبداعية مقابل العلم العراقي الباهت اللون، والموجود غالبا على أبرز الجهات الحكومية وقليلا على غيرها باستحياء!
مررت بمدينة كركوك وهي تشهد ذروة جدل رفع علم إقليم كردستان على المباني الحكومية حتى ان بيع الأعلام وقتها كان سوقا رائجا يملأ الطرقات! فهي أكثر مدينة يختلط بها الكرد مع التركمان والعرب وغيرهم مما يجعل مستقبلها أكثر غموضا برغم أن كل المتنازعين في العراق يسيل لعابهم عليها، فمن السهل أن تشم رائحة النفط في شوارعها، وكأنه يتدفق من آباره على مدار الساعة!
أثناء الزيارة، شاركت في جلسة حوارية حول مستقبل إقليم كردستان، وفي جلسة الافتتاح وبطلب من رئاسة الجامعة تحدثت دقائق، وقد كانت من أصعب اللحظات، إذ كيف يمكن أن أتكلم عن موضوع كهذا، وأنا مثل أي عربي لا يكاد يسمع عن انفصال بلد عن بلاد العرب إلا ويشعر بغصة في الحلق وكأن قطعة من الجسد المتهالك استؤصلت فزادته ضعفا!
في جزء من هذا النقاش كما في شواهد أخرى لا يخفى على أحد قوة تيار الانفصال وتحقيق حلم الدول الكردية التي طال انتظارها، أو على الاقل حكومة كونفيدرالية لمن يدركون تحديات الانفصال المستقبلية، ولذا قد يكون هذا التأييد الشعبي إضافة لنزوة الحكم والسلطة أكثر ما يغري قائد الإقليم مسعود بارزاني بالمضي قدما في إجراء استفتاء الانفصال في وقته 25 سبتمبر 2017 برغم المعارضة الدولية والإقليمية ودول الطوق والحكومة العراقية.
يطرح الكرد مبررات عدة لتأييد العزلة والاستقلالية عن حكومة العراق لا تخفى من حديث العامة فضلا عن المؤيدين من السياسيين والنخب لاسيما في أربيل، فتارة يقولون أي مستقبل لعراقنا والطائفية تنخره والشيعة سيطروا على الحكومة والجيش؟! وحتى بعد سقوط «داعش» فلن يكون في الجيش سنة وكرد حتى لو بقي الرئيس العراقي الشكلي كرديا، ويحاجج آخرون بأنه لو عرض على السنة في الأماكن المهمشة - والذين يذوقون ويلات الطوائف الشيعية - خيار الانفصال فلن يترددوا لحظة! وهكذا يرون مستقبل العراق دولة أفشل من فاشلة! إضافة لوعود طال انتظارها من حكومة المركز كما يقولون.
في الواقع، فإن إقليم كردستان هو أقرب ما يكون الي دولة مستقلة فلا يستطيع العربي من بغداد أن يدخل أربيل دون مبرر وإثبات عمل أو إقامة في أربيل، والا يرجع من عشرات نقاط التفتيش والحواجز، بل ان وسائل النقل - كما شاهدت ذلك بنفسي وبألم - لا يمكن أن تنقله دون أن يقدم إثباتا للسائق بمبرر ذهابه!
ومقابل إغراءات الانفصال، وغرور الكرد الانفصاليين بقوتهم بأنهم أكبر أقلية في المنطقة (30 مليونا بين تركيا وإيران والعراق وسورية) دون دولة، وكما كتب أحدهم «الاكراد يتامى المسلمين»، ستواجه أربيل تحديات عدة قد تجعلها تؤجل حلمها أو تقصقصه أو أن يكون مجرد مناورة سياسية مع حكومة بغداد لمكاسب سياسية أو شخصية للإقليم وحكامه أو عشائره، فكيف سيواجه الكرد دول طوق تحشرهم برا - دون منفذ بحري - لا يستطيعون نقل نفطهم عبره إلا بتصريح؟ وكيف سيكون حالهم مع هبوط أسعار النفط الذين يعولون عليه أو مع تحديات الطاقة البديلة التي تبخر قوة النفط واستدعت دولا أقوى لوضع خطط «ما بعد النفط»؟ بل ان تقليص رواتب الموظفين الحكوميين في الإقليم وتسلم أرباع رواتبهم كان الحديث الأبرز خلال السنوات الماضية، بغض النظر عن مدى تفهمهم مراعاة لظروف أولوية الإنفاق العسكري على قوات البيشمركة لحماية الإقليم من «داعش» أو الطوائف الشيعية المتطرفة.
كيف سيواجه الكرد هذه الحالة من الفرض الدولي والإقليمي والعراقي مقابل تأييد الدولة المغتصبة لهم «إسرائيل» والتي لم تؤيد انفصالهم الا لتحقيق المزيد من الشرخ العربي والمكاسب النفطية وحتى تسهيل حلم دولة إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات؟ كيف سيكون الحال وهناك تيار كردي لا يستهان به رافض للانفصال في السليمانية، وآخر في كركوك متمثلا في العرب السنّة والتركمان، ان كل هذه المبررات يمكن أن تجعل الدولة الوليدة - إن وجدت - دولة مهمشة ضعيفة بتأييد بسيط أقرب لتجربة قبرص التركية؟
يبدو أن مناورات الانفصال لن تكون ملزمة كما ألمح قادة الإقليم، وانها فقط قد تستخدم ورقة ضغط على حكومة المركز (بغداد) لترسيم حدود الإقليم، وكسب تمثيل سياسي حقيقي يليق بالاكراد، وللحصول على مكاسب نفطية ومالية واستقلالية والمزيد من السلطة للقائد بارزاني.
اذا كان للاكراد مبررات لخيار الانفصال بسبب التهميش التاريخي والحالي واستثمار الفرصة التاريخية الحالية التي ربما لن تتكرر كما يقول البعض، فإن المعطيات التي ذكرتها لن تجعل خيار الانفصال حكيما إلا اذا كان مناورة لمكاسب الإقليم التي ذكرت وهو ما أتوقعه وأتمناه لأنه أخف الضررين!