يتصالح جنبلاط مع بري ونصرالله وحردان وفرنجية. يتصالح الحريري مع عون وفرنجية وارسلان. مناخ المصالحات يعم الساحة الإسلامية ويجمع أطرافا من الساحتين الإسلامية والمسيحية، ولكنه لا يخترق الساحة المسيحية التي تظل بمنأى عن دينامية المصالحات السياسية المتناسلة، وتظل فيها حالة الانقسام والتباعد والتشنج على مستواها ووتيرتها رغم ما أصاب الوضع العام من أجواء تقارب واسترخاء ومن «انكسار» لحدة الفرز والاصطفاف السياسي. فما الأسباب التي تؤخر وحتى اشعار آخر مصالحة جعجع وفرنجية وهي الأصعب ومفتاح المصالحات المسيحية؟ ولماذا لا يلتقي عون وجعجع أو عون والجميل؟ أين أصبحت مساعي الرابطة المارونية وعدد من المطارنة؟ ولماذا تبدد الانطباع الذي نشأ اثر لقاء الجميل فرنجية في بكفيا بأن يكون فاتحة مصالحات تتوسع تدريجا على مختلف المسارات وتطلق عملية ترتيب البيت الداخلي؟
مصادر سياسية مطلعة تعيد تأخر وتعثر المصالحات المسيحية، والمارونية تحديدا، الى ثلاثة أسباب وعوامل أساسية:
- الأول يتعلق بعدم وجود «مرجعية عليا» تقوم بدور الرعاية والضمانة وتكون قادرة على التدخل وممارسة التأثير والنفوذ لدى القيادات السياسية. ومثل هذا الدور لا يمكن ان يقوم به الا البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير كمرجعية دينية وطنية، أو الرئيس ميشال سليمان كمرجعية وطنية سياسية...
ولكن الرئيس سليمان يتريث في القيام بدور على صعيد الساحة المسيحية مادام غير واثق من فرص النجاح ولم يلمس رغبة أكيدة وحقيقية من الأطراف المعنية، وحيث ان رئيس الجمهورية لا يتحرك الا بناء على طلب ورغبة هذه القيادات وليس في صدد ممارسة ضغوط أو فرض مصالحات قسرية لا تنبع عن قناعات ذاتية ولا تستند الى أسس موضوعية.
أما البطريرك صفير فإنه لم يعد في الوضع الذي يمكنه من لعب دور فاعل ومؤثر في اتمام المصالحات، بعدما تعمقت مشكلته مع قيادات مسيحية أساسية الى درجة انه أصبح طرفا في عملية المصالحات أكثر منه راعيا لها، وصارت مصالحة صفير مع عون وفرنجية تتصدر لائحة المصالحات المسيحية المطلوبة وصارت شرطا من شروط الولوج في مرحلة المصالحات السياسية وتولي البطريرك الماروني دور الرعاية فيها.
- الثاني: بقاء الوضع على حاله وعلى أشده بين القيادات المسيحية التي مازالت على المستويين السياسي والشخصي في أجواء ومواقف المرحلة السابقة، مرحلة ما قبل الانتخابات والحكومة. فإذا كان عون وفرنجية يطلقان اشارات الانفتاح والتقارب ازاء الحريري وجنبلاط، فإنهما لا يفعلان الشيء نفسه في اتجاه 14 آذار المسيحي، وخصوصا جعجع. واذا كان الحريري وجنبلاط أطفآ محركاتهما السياسية في معركة السيادة والاستقلال، وتحديدا في مواجهة حزب الله وسلاحه، فإن مسيحيي 14 آذار مستمرون في هذه المعركة وحدهم وبقدرات وهوامش محددة ومحدودة. «استمرار الخلاف السياسي» هو الذي حال دون تطوير عملية التقارب بين المردة والكتائب مادامت ستبقى من دون أفق. والخلاف السياسي هو الذي يحول دون لقاء عون وجعجع مادام لا جدوى سياسية من هذا اللقاء، ولا شيء يمكن البحث به والاتفاق عليه، في ظل خلاف عميق يدور حول مشروعين وخيارين. ولكن الخلاف السياسي ليس سببا كافيا لمنع حصول المصالحات واللقاءات ولاستمرار حال القطيعة، اذ ليس المطلوب، من وجهة نظر أوساط ناشطة على خط المصالحات، الوصول الى وحدة صف وموقف، وانما المطلوب الوصول الى وضع صحي وسليم في اتجاه ترسيخ التعددية والتنوع السياسي على قاعدة الاقرار بحق الاختلاف وتنظيم الخلاف السياسي تحت سقف المصلحة الوطنية العليا وبعيدا عن الشارع وكل أشكال العنف السياسي. هذا التنوع دليل غنى وحيوية ولا يجوز النظر اليه فقط كدليل ضعف وانقسام، بدليل ان الطائفة المارونية ليست مقفلة في التمثيل والزعامة على أحادية أو ثنائية كما الحال في باقي الطوائف، وان الساحة المسيحية هي الوحيدة التي شهدت انتخابات فعلية ومنافسة ديموقراطية، اضافة الى ان لا مصلحة للمسيحيين في ظل صراع سني شيعي محتدم ان يكونوا كتلة واحدة الى جانب هذا الفريق أو ذاك.
- الثالث: مفاعيل التفاهم السوري - السعودي لا تنسحب في هذه المرحلة على الساحة المسيحية الداخلية. وكثير من المصالحات السياسية لا بل كلها حاليا تجري نتيجة قوة الدفع التي ولدها هذا التفاهم، وفي ظل عودة الادارة السورية - السعودية المشتركة للوضع اللبناني. واذا كانت هذه الادارة المشتركة تغطي كل الساحة الإسلامية، فإنها لا تغطي كل الساحة المسيحية، خصوصا ان ترتيب الأوضاع الداخلية فيها ليس له أولوية راهنا وليس له تأثير حيوي في المعادلة ومجرى الأحداث.