الأكراد في شمال العراق تحت الصدمة نتيجة الضربة المبكرة والموجعة التي تلقاها مشروعهم الانفصالي مع خسارتهم لـ «كركوك» واضطرارهم الى الانسحاب من كل المناطق المتنازع عليها والعودة الى خط ما قبل العام 2014 الذي تجاوزته قوات البيشمركة لملء الفراغ الذي حدث بفعل انهيار الجيش العراقي أمام تقدم «داعش».
أربيل كانت قبل ثلاثة أسابيع تضج باحتفالات الاستفتاء ورفعت في شوارعها أعلام الإقليم ولافتات تأييدا للانفصال.
لكن المشاعر انقلبت إلى العكس تماما الآن، ولم يذهب الكثيرون من السكان إلى العمل، وغابت الحياة عن الشوارع والأسواق، وبدت المحلات التجارية خالية. وعبر الأكراد عن خيبة أملهم بعد 3 أسابيع على احتفالهم بتنظيم استفتاء على الانفصال عن العراق، وقالوا ان «قادتنا جعلونا نحلم بدولة كردية وتخلوا عنا، وأن الدول الإقليمية تضطهد الأكراد دائما كيلا يحققوا طموحهم في الاستقلال.. تاريخ الأكراد في العراق مليء بالانتكاسات، وما حدث في كركوك انتكاسة كبيرة وانقلاب عراقي بمباركة ودعم إيران وتركيا، وعلى المجتمع الدولي مساعدة الأكراد والاعتراف بالاستفتاء».
وهناك من يضيف ويعبر عن سخطه على الأميركيين بالقول «قبل أيام كانوا حلفاء لأنهم كانوا يحتاجون إلينا ليقفوا في وجه زحف داعش، لكنهم اليوم أداروا ظهرهم لنا».
في ظل أجواء الصدمة، تمرر اتهامات لحزب جلال الطالباني (الاتحاد الوطني الكردستاني) بالخيانة ولمسعود البارزاني بأنه ارتكب خطأ جسيما ولم يحسب للنتائج والعواقب، مع تساؤلات على ماذا راهن في تصعيد الأزمة مع بغداد ومع الجارين الإقليميين التركي والإيراني.
في الواقع، البعد الداخلي للأزمة هو الأهم مع إحياء الانقسام والخلاف التاريخي بين الفصائل الكردية وانكشاف عمق الأزمة الداخلية. فقد هزم «المشروع الانفصالي» من داخل إقليم كردستان قبل أن تتحرك القوات العراقية وتحكم قبضتها على كركوك، فضلا عن استعادة جميع المناطق المتنازع عليها التي شملها الاستفتاء.
وبافتراق الرؤى والتصورات وعمق الانتقادات المتبادلة بين الحزبين الكرديين الكبيرين «الحزب الديموقراطي» الذي يتزعمه البارزاني وله صلات قديمة مع إسرائيل، و«الاتحاد الوطني» الذي أسسه طالباني وله صلات تاريخية مع إيران، تشققت وحدة البيشمركة وتبدت على السطح الساخن اتهامات متبادلة، ليس أقلها الخيانة.
الشكوك عميقة، فحزب البارزاني يسيطر على أربيل ويمسك وحده بمقاليد السلطة وعوائد النفط، ويتهمه معارضوه بأن تجربته في حكم الإقليم، التي امتدت لأكثر من ربع قرن، لم تساعد على تحسين أحواله، وأنه محض ديكتاتور صغير أمم الحياة السياسية ولم يترك منصبه رغم انقضاء مدته، وعطل الحياة النيابية بالكامل. وحزب طالباني يكاد يهيمن على السليمانية، وهي محافظة كردية مهمة، وحضوره السياسي والعسكري في كركوك المتنازع عليها أبرز وأقوى، وهو متهم ـ من قبل الحزب الآخر ـ بالخيانة نتيجة قرار منفرد اتخذه وانتهى بانسحاب البيشمركة بالطريقة التي جرت.
يسود اعتقاد لدى الأكراد بأن ما حدث في كركوك كان الهدف منه ضرب المكانة القوية لإقليم كردستان في المعادلات المستقبلية لكردستان أو للمنطقة بأسرها، والمتضرر الرئيسي منها هي الجبهة المناهضة لإيران والمستفيد الرئيسي إيران، وأن إيران دخلت كركوك بأسلحة التحالف الدولي وأرادت أن تدمر قدرات البيشمركة خلال هذه الحرب بحيث لا تتمكن من فعل شيء في المرحلة المقبلة المتمثلة بمرحلة ما بعد القضاء على «داعش»، وأن التغييرات الحقيقية في الشرق الأوسط ستبدأ بعد الانتهاء من «داعش»، وفي اعتقادهم انه بعد قرار مجموعة «5+1» ومحاولات واشنطن الجدية لالغاء الاتفاقية النووية مع ايران تعمل طهران بكل الأشكال للسيطرة بشكل كامل على العراق من أجل عاملين: الأول يتمثل في سعي طهران لتعويض ما تمر به من إنهاك ونقص الأموال بسبب حرب سورية واليمن من نفط العراق، والعامل الثاني يتمثل في تعويض خسائر الحرس الثوري البشرية في حرب سورية بقوات أخرى في العراق تدعى الحشد الشعبي، لذا إذا استمر هذا الوضع فإن قوة كركوك الاقتصادية والعسكرية ستكون لإيران بالكامل.
ما يقوله الأكراد في أربيل بشأن إيران، يقول مثله حلفاء إيران في بيروت ولكن بطريقة أكثر وضوحا وأكثر صلة بالمواجهة الإيرانية ـ الأميركية في المنطقة.
يقول هؤلاء: ما حصل في العراق خلال الأيام القليلة الماضية يعتبر أسوأ نكسة للأميركيين في المنطقة باعتبار أن الحرس الثوري الإيراني بقيادة الجنرال قاسم سليماني نجح في إجهاض الخطط الأميركية ـ الإسرائيلية في العراق، وأنهى مؤامرة التقسيم بعملية نظيفة من دون الغرق في مستنقع مواجهة عرقية أو مذهبية في منطقة شديدة الحساسية والخطورة، لكن الجديد هذه المرة أن المشروع أسقط بسلاح أميركي استخدمه الجيش العراقي من دون التوقف عند الاعتراضات الأميركية، وهذا تطور نوعي غير مسبوق في العراق، ويدل على تحولات ستكون دراماتيكية في مرحلة ما بعد داعش، حيث بات تراجع النفوذ الأميركي حتميا أمام المد الإيراني. وقد كشفت الأحداث أن الجنرال سليماني نجح أيضا في الاستثمار بالأكراد، فيما كان يعتقد الأميركيون أن يدهم هناك هي الأعلى.
وعلى الأرجح ستبدأ مراجعة اميركية عاجلة للاستراتيجية في سورية، خصوصا أن «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد ـ الكردية) لا تملك المزايا الموجودة لدى أكراد كردستان، والرسالة الإيرانية القاسية في العراق واضحة لجهة عدم القبول بأي خروج كردي في سورية عن النص، ولن تتوانى طهران وحلفاؤها في الإقدام على كل ما هو مطلوب لمنع إجهاض الانتصار الميداني الذي تحقق، ولن تمنح واشنطن في سورية أي انتصار سياسي عبر استغلال «الورقة الكردية».
يرى مراقبون أن إيران هي المستفيدة الأولى، وخرجت رابحة من هذه الجولة. ولكن هناك نتائج أخرى أولها تمتين أواصر العلاقة بين إيران وتركيا التي وجدت أن تحالفهما تمكن في وقت قياسي من إجهاض الانفصال الكردي، وأنها ربحت أيضا في وقت ما زالت غير مطمئنة للولايات المتحدة ولأي تعهدات بشأن احتمالات تأسيس دولة كردية في الشمال السوري، ومن النتائج أيضا أن مشروع تقسيم العراق الى دويلات ضربت إحدى أهم ركائزه وصارت الفيدرالية سقفا أعلى لنظام العراق ومستقبله.