بيروت: خرجت سورية من لبنان عسكريا عام 2005 بقرار اميركي (1559) وبعد أربع سنوات واجهت فيها حصارا ديبلوماسيا دوليا واستخدم لبنان من خلالها منصة للاطلاق في اتجاهها وساحة ضغوط عليها، ووصلت العلاقات اللبنانية - السورية الى أدنى مستوياتها والى أقصى درجات التشنج والتوتر وأحيانا «العدائية»، تعود سورية الى لبنان «سياسيا» وليس في حساباتها وخططها العودة عسكريا بعدما ثبت لها ان الوضع الجديد «مردوده أكثر وكلفته أقل» ويوفر عليها الكثير من الاحراجات والممارسات السياسية والأعباء المالية واللوجستية. هذا ليس استنتاجا مبكرا وانما أصبح واقعا ظاهرا للعيان تتراكم عناصره تباعا منذ أشهر وتحديدا منذ اتفاق الدوحة الذي كان نقطة التحول في مسار الوضع الداخلي وميزان القوى السياسي فيه.
وتؤكد عليه وقائع وتطورات ومؤشرات لبنانية حسية بدءا من التحول الدراماتيكي في سياسة النائب وليد جنبلاط، وصولا بعودة التواصل بين القيادة السورية والرئيس سعد الحريري الذي كرسته زيارة الحريري الى دمشق، وقبلهما «الحشد اللبناني الرسمي والسياسي» المتدفق بأشكال مختلفة الى القرداحة بمناسبة وفاة شقيق الرئيس السوري.
ومع ان الدفق اللبناني تحكمه اعتبارات ولياقات اجتماعية وانسانية، الا انه لا يمكن اغفال الأبعاد والمعاني السياسية في هذا «المشهد» الذي يدل الى ان اللبنانيين «يعودون» الى سورية في موازاة عودة سورية الى لبنان.
سورية التي نجحت في كسر عزلتها الدولية العربية عبر علاقة تعاون وتفاهم غير مسبوقة مع فرنسا، وحوار متجدد مع الولايات المتحدة، وتحالف مستجد مع تركيا، ومصالحة راسخة مع السعودية، وكل ذلك من دون التخلي عن أي من تحالفاتها وأوراقها في المنطقة. نجحت أيضا في استعادة زمام المبادرة في لبنان وفي اظهار حجم نفوذها وتأثيرها المستمرين بقوة، وان دورها المحوري في لبنان لا تستمده من وجودها العسكري على أرضه وانما من عوامل أخرى ثابتة «جيوبوليتيكية تاريخية واقتصادية واجتماعية».
ما أقامته سورية طيلة فترة وجودها المديد على مدى عقود في لبنان من بنية تحتية سياسية أمنية وشبكة علاقات ومصالح يساعدها في استعادة ما خسرته وفي اعادة وصل ما انقطع.
ولكن عودتها السياسية الى لبنان لم تكن لتتم بهذه السرعة والقوة لولا ظروف ومتغيرات مساعدة أفادت دمشق التي تحسن سياسة «كسب الوقت والنفس الطويل وانتظار المتغيرات والتقاط الفرص»، والتي لم تتأخر في الافادة من متغيرات دولية واقليمية ولبنانية تسارع إيقاعها في الأشهر الأخيرة منذ وصول الرئيس باراك أوباما الى البيت الأبيض ومعه أساليب وخطط وأولويات جديدة، ومع تقدم الهاجس الأمني في العالم العربي على ما عداه، ووصول اليمين المتطرف الى الحكم في اسرائيل وتعطل عملية السلام، وتعاظم النفوذ الايراني في المنطقة ومعه صعود قوى الممانعة. أما في لبنان فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ اتفاق الدوحة وجاءت النتيجة ايجابية ومرحباً بها دوليا، ان لجهة اعادة بناء المؤسسات الدستورية واكتمال عقدها، أو لجهة ما أبدته دمشق ومارسته من دور ايجابي مسهل في انجاز الاستحقاقات المتلاحقة من انتخابات الرئاسة الى الانتخابات النيابية الى تشكيل الحكومة، اضافة الى الاستجابة للمطلب الدولي بإقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان. وحصل ذلك في وقت كان واقع جديد يرتسم على الأرض اللبنانية: تحالف 14 آذار وصل الى الحكم في العام 2005 ولكنه لم يستطع ان يحكم، وفاز في انتخابات العام 2009 ولكنه فقد «أكثريته». فريق المعارضة المرتكز الى «تحالف حزب الله عون» سجل خطوات متقدمة في الحكم وانتقل من حيازة حق الڤيتو الى الشراكة في القرار.
خلط الأوراق بدأ. المشهد السياسي في لبنان الى تغيير ومعه قواعد اللعبة: الصراع السياسي الذي بلغ درجة عالية من الحدة والانقسام وكاد يخرج عن السكة السياسية الى الشارع أكثر من مرة، سيهدأ وستكون فترة استقرار سياسي وهدنة طويلة لا تهددها الا تطورات مفاجئة في المنطقة.
انتظم الجميع تقريبا تحت مظلة التفاهم السوري السعودي وطرأ تحول ملموس على الخطاب السياسي لمختلف الأطراف الذي بات ميالا الى العناوين والملفات غير السياسية. خارطة العلاقات والتحالفات الى تبدل وليس مفاجئا ومستغربا ان نرى جنبلاط في الرابية قريبا، والعلاقة تتوطد بين الحريري وفرنجية، وعلاقة التعاون والتنسيق تعود بين قصر بعبدا وقصر المهاجرين...
سورية التي أصبحت مرحلة الضغوط الدولية وراءها استعادت مكانتها السياسية في لبنان، وهي الآن بصدد استعادة دورها الفاعل والمباشر، وما تريده وتعمل له هو الغاء مفاعيل المرحلة السابقة والسنوات «العجاف» الممتدة من مطلع 2005 حتى أواسط 2005، وقد حققت نتائج جيدة في هذا الاتجاه: العلاقة بين الرئيسين سليمان والأسد تأخذ طريقها الى «الانسجام والثبات» لتغادر مرحلة الاهتزاز بعدما اجتازت بنجاح اختبار العام الأول و«فترة السماح». عملية التنسيق الأمني بين الجيشين اللبناني والسوري تعود الى سابق عهدها في مجالات ضبط الحدود ومكافحة الارهاب وحالات التطرف...
الجدار السياسي والنفسي الذي ارتفع عاليا في السنوات الماضية بين سورية وأكثرية لبنانية تصدع ويقترب من لحظة السقوط الكامل عندما يطأ سعد رفيق الحريري أرض دمشق. ولكن الهدف المباشر للسوريين في عملية «تصفية آثار المرحلة السابقة وانجاز عملية الانتقال الى الوضع الجديد يبقى «تحالف 14 آذار» الذي يشكل مجتمعا الرمز الأبرز لتلك المرحلة وشكل كجسم سياسي ناشئ رأس الحربة السياسية في المواجهة مع سورية. واذا كانت دمشق حققت أبرز مكسب لها هذا العام في «خروج أو اخراج» جنبلاط من هذا التحالف وهو في صدد انهاء مرحلة تقديم «أوراق اعتماده» لدمشق ملبيا كل ما تطلبه وتشترطه، فإنها تبدي اهتماما أكبر بمسألة اعادة بناء العلاقة مع الرئيس سعد الحريري ومن خلاله مع الطائفة السنية في لبنان عبر سياسة «الاحتواء المزدوج»، وفي سياق هذا التوجه، تتجه الأنظار في المرحلة المقبلة الى مسألتين: علاقة الحريري مع مسيحيي 14 آذار وكيف ستتطور: في اتجاه التباين والتنافر أم في اتجاه التناغم والتكيف مع الواقع الجديد (وهو المرجح). والمسألة الثانية هي مصير ومستقبل الأمانة العامة لـ 14 آذار التي هي «التجسيد العملي لهذا التحالف وحلقة الربط والتواصل بين مكوناته.
الا ان الخطوات السورية، تثير حفيظة وحذر أطراف سياسية أكثرية من ان تكون العودة الى وضع ما قبل العام 2005 عودة الى سيئات وسلبيات مرحلة الوصاية، وان يظل التعاطي السوري مع لبنان في عمقه وجوهره على ما كان عليه رغم ما حصل على صعيد الانسحاب العسكري والتمثيل الديبلوماسي واكتمال عقد المؤسسات اللبنانية الدستورية.