علي رباح
إذا كان للغموض سر فلبنان سره.. وان كانت للتسويات ساحة فلبنان ساحتها.. وان كانت للمتغيرات ارض فلبنان ارضها، ولعل الخمس سنوات المنصرمة اكبر دليل على ذلك، حيث بدأت حقبة تاريخية وانتهت بسرعة البرق ولن يكون امام المؤرخين عناء كبير لكتابتها وأرشفتها.
خمس سنوات من الصراع الكبير داخل البلد الصغير.. لبنان، أدت بنتيجة التسويات التي عهدها هذا الوطن الى انهاء النزاع وعودة الامور تدريجيا لما كانت عليه قبل 14 فبراير 2005 تاريخ استشهاد رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريري والذي أدى الى انقسام طائفي ومذهبي كبير وإلى خروج الجيش السوري من لبنان.
خمس سنوات من المناكفات الشرسة بين فريقي 8 و14 آذار انتهت بفعل التسويات الاقليمية الى انتخاب مجلس جديد للنواب وتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري نجل الشهيد رفيق الحريري والى اعادة تموضع جديد للقوى السياسية كل حسب مصالحه ونظرته الى المستقبل، ولعل النائب وليد جنبلاط اول من اعاد تموضعه في 2 اغسطس 2009 من فندق البوريفاج معلنا تخليه عن 14 آذار ومطالبا حلفاءه بإعادة قراءة المرحلة والعودة الى خطاب العروبة واليسار، ما كان من شأنه اعادة خلط الاوراق وفرز جديد للانتخابات لتفقد الاكثرية أكثريتها بعد اقل من شهر من الاستحقاق النيابي، ولترفع المعارضة سقف مطالبها من جديد نظرا الى شبه التساوي الذي أفرزته نتائج تكويعة جنبلاط بين الاكثرية والاقلية.
هذه المتغيرات التي بدأت بوادرها بالظهور منذ قمة الكويت الاقتصادية في 19 يناير 2009 عندما اعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في العلاقات العربية ثم الزيارة التي قام بها الرئيس السوري د. بشار الاسد الى الرياض للمشاركة في افتتاح جامعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز وملاقاتها بزيارة مماثلة لخادم الحرمين الشريفين الى دمشق، وضعت حدا لنهاية مرحلة سوداء في العلاقات الثنائية والإقليمية امتدت أربع سنوات ما جعل الزعماء اللبنانيين على يقين بأن حقبة الصراعات ولت، مستشرفين بذلك عهدا جديدا من الاستقرار، ما يعني داخليا عودة كل زعيم الى صفوف جماهيره وحزبه لتفقدها بعد 5 سنوات من الصراع.
من هنا لم يكن امام التيار الوطني الحر الذي اثبت نفسه مسيحيا أي مشكلة على صعيد بيته الداخلي لا وعلى العكس تماما، فلربما اثبت مجددا بعد انتهاء مرحلة التأزم في لبنان انه كان على صواب في خياره وفي تحالفه وقراءته للواقع السياسي وهذا ما اقر به النائب وليد حنبلاط في احدى جلساته الخاصة عندما اعلن ان العماد عون كان صائبا في قراءة المرحلة اكثر منه وحان الوقت لأن يقطف ثمار صوابية خياره.
وحزب الله الذي حافظ على سلاحه وأبعده عن التداول الداخلي حافظ على جمهوره المنظم وفرض شروطه في البيان الوزاري واثبت بفعل جمهوره وسياسته وعلاقاته الاقليمية انه الاقوى على الارض.
ولكن الواقع المريح لقوى 8 اذار لا ينعكس ارتياحا داخل جمهور واحزاب 14 آذار التي اهتزت ثقتها بزعمائها الذين اثبتوا على مدى 5 سنوات انهم لم يستطيعوا ممارسة السلطة وان قوة سلاح حزب الله كانت اقوى بكثير من كل الدعم الخارجي الذي تلقته هذه القوى.
يستطيع النائب وليد جنبلاط اقناع جمهوره مع الوقت بـ «الخطا الاستراتيجي» الذي وقع فيه على مدى 5 سنوات وربما شعور الطائفة الدرزية بالاقلية وابتعادها فعليا عن الحكم سيسهل مهمة الزعيم الدرزي، الا ان هذا الواقع لن يكون يسيرا أبدا عند جمهور تيار المستقبل وتحديدا الطائفة السنية التي لم تعتد يوما في تاريخها على فكرة الزعامة لا وعلى العكس تماما فكانت هذه الطائفة مقتنعة على مر التاريخ الحديث بوجوب بقائها في الوسط لاعتبارها «ام الصبي» في هذا البلد. وان كان للواقع الذي فرضه اغتيال الرئيس رفيق الحريري انعكاس على الطائفة السنية وشعورها بالاستهداف ما جعلها تتماسك وراء زعيم لها، الا ان عودة الامور الى طبيعتها تجعل الطائفة السنية تعيد النظر في خياراتها وبخاصة بعد 5 سنوات من العداوة لسورية. وفي هذا السياق تساءل مصدر مطلع داخل تيار المستقبل لـ «الأنباء» عن جدوى معاداة سورية 5 سنوات ان كانت الامور ستصل الى ما وصلنا اليه اليوم وان كان الجميع سيذهبون الى دمشق، وقد عادت سورية سياسيا الى لبنان وربما اقوى من ذي قبل، مؤكدا ان سورية تدخلت مباشرة في الانتخابات النيابية بقضاء زحلة لمصلحة الحريري، وان المجنسين الذين قدموا من دمشق صوتوا للائحة زحلة بالقلب، بالاضافة الى الذين «بتمون» سورية عليهم في البقاع الاوسط. وكشف المصدر عن مشاكل يعيشها تيار المستقبل تتلخص بعدم وجود آلية لانتاج القرار السياسي، وعدم وجود ارضية ثابتة، وغياب الخطاب السياسي الذي يهيئ الشارع لاي خطوات جديدة من وزن زيارته لسورية، فحماسة جمهوره مرهونة بتطورات داخلية وهي آيلة للصعود والهبوط بحسب الاجواء الداخلية والشحن الطائفي. هذه الاوضاع الداخلية لتيار المستقبل يمكن مراقبتها من زاوية التجاذبات الحاصلة اليوم بين القيادات وداخل كتلة «لبنان اولا»، هذا الخلاف الذي ظهر الى العلن مع اعلان النائب احمد فتفت «اننا لسنــا في مسار واحد مع المشنوق» وهو زميله في الكتلة والذي اكد انه زار دمشق «بصفة شخصية بحيث لم يكلف بها من احد ولم يمثل فيها احدا»!
وان كان كلام المشنوق صحيحا، فهل هذا يعني اننا امام نسخة جديدة من النائبين السابقين باسم يموت وعدنان عرقجي اللذين اتى بهما الرئيس الشهيد رفيق الحريري اكثر من دورة نيابية بطلب من سورية؟ وهل العلاقة اليوم بين الحريري وسورية واصلة الى حد «المونة»؟ ام ان الحريري يعي عدم صوابية قراره بترشيح المشنوق للنيابة وبخاصة ان رئيس الحكومة لم يصفق لكلمة المشنوق في جلسات الثقة في المجلس النيابي وهناك من يتحدث عن علاقة متشنجة بين الطرفين. وفي المقابل وبعد توجيه احد الاعلاميين سؤالا الى النائب عماد الحوت بصفته عضو كتلة المستقبل النيابية، اعترض قائلا «انا لست عضوا في كتلة المستقبل، انا ممثل الجماعة الاسلامية في مجلس النواب»، فهل لكلام الحوت اي خلفية أو يمهد لتمايز ما بين تيار المستقبل والجماعة الاسلامية، وبخاصة بعد انتفاء الحاجة لهكذا تحالف؟!
وبعدما كان قد كلف الوزير «المحايد» محمد الصفدي تمثيله في تقديم العزاء، انتقل الحريري الى التعزية المباشرة عبر توجيه برقية الى الاسد بوفاة شقيقه لم يوزع نسخة نصها، كما ابرق الرئيس فؤاد السنيورة الى الاسد معزيا باسم كتلة المستقبل النيابية وتميز النائبان محمد قباني وتمام سلام ببرقيتين منفصلتين، فلماذا هذا التشتت؟ وهل هناك من يحاول ان يحجز له مكانا في دمشق بمعزل عن الرئيس سعد الحريري؟
مما لا شك فيه ان تيار المستقبل يعيش أوقات عصيبة بعكس معظم الاحزاب اللبنانية التي تشهد استقرارا داخليا ولعل الايام المقبلة ستكون خير برهان وجواب عن الاسئلة التي تحير الكثيرين.