تستحق زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق ان توصف بـ «الزيارة التاريخية» لأنها زيارة تعلن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية ـ السورية كما في المعادلة اللبنانية الداخلية، الزيارة وضعت حدا زمنيا وسياسيا فاصلا بين مرحلتين، وما بعدها لن يكون مثل ما قبلها. ذهب الرئيس سعد الحريري الى دمشق بصفاته الثلاث:
هو ابن رفيق الحريري الذي قام بخطوة جريئة وشجاعة، واتخذ قرارا صعبا بزيارته الى دمشق، ومشى بخطى ثقيلة وملامح متوترة عند مدخل قصر «تشرين»، حيث لاقاه الرئيس السوري بشار الاسد، وعقدت مصالحة بينهما وضعت حدا لأربع سنوات من الخصومة والعداء الشديد على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاتهام السياسي الذي وجه لسورية قبل ان تصبح القضية في عهدة المحكمة الدولية، لذلك فإن المصالحة التي رغب الحريري في ان يضعها في اطار «المصالحة العربية» هي الانجاز المباشر لهذه الزيارة التي فصلت على هذا النحو الاستثنائي من أجل هذا الهدف، فكان ان بادر الاسد الى «احتضان» الحريري وبث أجواء الدفء في المحادثات و«كسر» أكثر من قاعدة بروتوكولية واستقباله استقبالا خاصا و«رئاسيا» وإحاطته بمظاهر التكريم. سعد الحريري هو ثانيا الزعيم السني في لبنان من دون منازع، صحيح انه ورث الزعامة عن والده، لكنه عرف كيف يحافظ عليها وكيف يوصلها الى مستويات قياسية لم تصل اليها مع والده. لذلك فإن دمشق حرصت على ابعاد الزيارة عن شكل ومضمون «الزيارة الرسمية» واعطائها أكثر طابع الزيارة السياسية الخاصة الهادفة الى التعارف والتأسيس لعلاقة ثقة ووضع تفاهمات سياسية كافية لأن تشكل قاعدة صلبة لعلاقة مستقبلية يفترض ان تمتد لأمد طويل بين الرئيس السوري الشاب والزعيم اللبناني الشاب. سعد الحريري هو ثالثا رئيس حكومة لبنان وليس أي حكومة، انما حكومة وحدة وطنية لكل لبنان، وهو عندما أخذ قراره بتبوؤ هذا المنصب أخذ قرارا موازيا بالذهاب الى دمشق ليس فقط انفاذا لتفاهم سوري ـ سعودي وتلبية لرغبة خادم الحرمين الشريفين، انما أيضا لعلمه وادراكه بأن لبنان محكوم بالحقائق «الجيوبوليتيكية» ولا يمكنه ان «يعيش» وان «يستقر» سياسيا وأمنيا من دون سورية وعلاقة طبيعية معها، لذلك فإن الحريري عندما ذهب الى دمشق انما ذهب بخلفية «مقايضة المشاعر بالمصالح» والاستعداد للتعالي على أوضاع وحساسيات خاصة لاعتبارات ومقتضيات وطنية وعامة. ليس بالامكان سبر أغوار المحادثات التي امتدت لساعات وعلى أربع خلوات ثنائية لا يمكن اختراق طوق الكتمان المضروب حولها، ولا يفيد التكهن بما دار فيها، لكن بالامكان تحديد نتائج الزيارة وملامح المرحلة المقبلة في النقاط التالية:
1 ـ الزيارة أرست علاقة شخصية واثقة بين الاسد والحريري، وألغت كل مفاعيل وأجواء المرحلة السابقة متجاوزة بشكل خاص موضوع المحكمة الدولية وقضية اغتيال الرئيس الحريري وكل ما يتصل أو يتفرع عنها، وصولا حتى الاستنابات القضائية السورية. دمشق عازمة على علاقة خاصة وودية مع الحريري الابن تتجاوز العلاقة التي أقامتها مع الحريري الأب، لكن الأمر يتوقف بالنسبة لها وأولا على الحريري نفسه والى أي مدى هو مستعد للذهاب في العلاقة معها.
2 ـ الزيارة تطلق مرحلة جديدة في العلاقات اللبنانية السورية التي تخلصت الآن من «التقالات والتوترات» التي شدت بها نزولا الى أدنى مستوى لم تعرفه في تاريخها، ان مرحلة سوداء قد انتهت وفتحت مرحلة يمكن وصفها حتى اشعار آخر بـ «الرمادية» الى حين ان تتضح طبيعة وأشكال العلاقة الجديدة. وليس متوقعا ان يكون الحريري حمل معه من دمشق حلولا لمشاكل عالقة أو وعودا بشأنها (ترسيم الحدود السلاح الفلسطيني خارج المخيمات والمجلس الأعلى)، لكن مجمل هذه المسائل ستشق طريقها الى البحث والحوار عبر الأطر المؤسساتية وأولها اللجنة العليا المشتركة برئاسة رئيسي الوزراء في البلدين، وحيث من المتوقع ان يعاد احياؤها سريعا وان تحدث زيارات متبادلة وبوتيرة سريعة ومكثفة في المرحلة المقبلة.
3 ـ تركيز الحريري سيكون لأيام أو لأسابيع على تفسير وتوضيح و«تبرير» الزيارة وتسويق نتائجها لدى جمهوره أولا وحلفائه ثانيا، وهو لن يواجه مشكلة كبيرة مع جمهوره الذي يبدي تفهما لهذه الزيارة وقبولا لثلاثة أسباب: المظلة السعودية وموقع رئاسة الحكومة، وتراجع الحالة السنية العدائية لسورية بموازاة تراجع الحالة الاتهامية ضدها وتحول الاتهامات في اتجاهات واهتمامات أخرى. أما مع حلفائه فإن مهمة الحريري ستكون صعبة لكن ليست مستحيلة، فالحلفاء، وتحديدا مسيحيو 14 آذار، وفروا التغطية للزيارة وان كانوا لم يوفروا ملاحظاتهم على «شكلياتها» التي خرقت الأصول وأثارت هاجس العودة الى النمط السابق للعلاقة بين سورية ولبنان، لكن المشكلة تكمن في القيود السياسية التي يمكن ان تحكم حركة الحريري وتحالفاته، وحيث بدأت دمشق عبر حلفائها بتحديد معادلة سياسية يصعب فيها الفصل بين سورية وحزب الله بتحييد الأولى ومهاجمة الثاني، ويصعب فيها الجمع بين علاقة الحريري الجيدة بدمشق واستمرار حلفائه في أجواء ومواقف ما قبل الزيارة.