تحقيق: هالة عمران
من منا لا يعرف «زنقة الستات» في الإسكندرية.. حارات ضيقة ومحال متلاصقة يعود تاريخها لأوائل القرن 18 حين كان تجار المغرب العربي وليبيا يتمركزون في حي المنشية وسط الإسكندرية عند الوصول ببضائعهم لبيعها في «سوق المغاربة» الذي كان محاطا بمجموعة من الأسواق القديمة منها «سوق الصاغة» و«سوق الخيط» و«سوق الخراطين» و«سوق العطارين»، حيث تتداخل كل هذه الأسواق مع بعضها البعض لتشكل مزيجا متناغما من فن معماري يحمل بين طياته عبق الزمن الجميل، والطريف أن معظم البائعين في هذا السوق من الرجال.
«الأنباء» جالت في شوارع هذا السوق العتيق، حيث البداية مع موفق ضيف الله أمين، وهو الابن الأكبر لعم أمين الذي كانت شهرته في السوق سابقا «عم أمين الحرامي ـ صاحب أقدم محل عطور في زنقة الستات»، إن والده امتهن العمل بالسوق منذ أكثر من 100 عاما، مبينا أن الزنقة كانت سابقا هي سرة البلد، ونظرا لقربها من الميناء الشرقي نزل هنا السوريون والمغاربة، لذلك أصبح لكل جنسية، سوق متخصص، لدرجة أن زنقة الستات فاقت شهرتها الحدود المصرية، وتخطتها للعديد من دول العالم.
وأضاف أن أشهر ما يميز هذا السوق هو ارتباطه بأشهر ثنائي إجرامي عرفته مصر والعالم العربي، وهما «ريا وسكينة»، اللتان اتخذتا من الزنقة مسرحا لاصطياد ضحاياهما واستدراجهم وقتلهم بعد سرقتهم، مبينا أن والده بدأ التجارة في الزنقة في مطلع القرن الـ19 للعطور المعتقة، وأدوات التجميل الشعبية، حيث كانت الزنقة في تلك الحقبة مركزا تجاريا في عهد الإنجليز، وكانت الأسواق متخصصة، منها سوق العطارين، والدقاقين، حيث بدأ الاهتمام بالسوق بما تحتاجه المرأة من عطارة، وملابس وإكسسوارات.
وأشار عم موفق أمين إلى أن الذي أنشا الزنقة هم الإنجليز واليهود حيث استحوذوا على معظم المحلات في تلك الفترة، ثم جاء الأتراك، فالجالية اليونانية، بالإضافة إلى الجالية الفرنسية، وبعض الجنسيات من الدول العربية التي تحمل الأسواق أسماءهم مثل سوق ليبيا، وسوق سورية وغيرها، مؤكدا انه ما زال هناك زائرون من هذه الجنسيات للزنقة.
بدوره، يقول أحمد صادق فهمي صاحب محل للأحذية، انه بدأ العمل في الزنقة في عمر الـ 13عاما، عندما كان اسم الزنقة «سوق المغاربة» حيث قام صاحب محلات الزنقة وهو شخص يهودي اسمه «دويك»، وقبل أن يرحل من الإسكندرية باع جميع المحلات.
ويضيف: «محلات الزنقة احتفظت بطابع مميز على مر الزمن، فالعديد من أصحاب المحلات تصدوا لمحاولات تغيير الطابع القديم للزنقة، بالرغم من مواكبة التطورات في العرض»، كما يزيد من جمال هذا المكان وتميزه وجود عدد من المساجد الأثرية التي تحيط بها وتجسد عظمة العمارة الإسلامية التي يرجع تاريخها الى 140عاما، وجميعها من المساجد المعلقة، مثل الشوربجي، وتربانة، والخراطين. وبين أن الزنقة كان بها مكان يسمي «البيت الأبيض» حيث كان مخصصا لحل المشاكل والخصومات بين التجار، متذكرا رئيسه الحاج سيد راشد الذي ورّث تلك المهمة لابنه فبات يتولى مسؤولية حل النزاعات.
وحول تطوير الزنقة قال فهمي: «منذ عدة سنوات حاول بعض المسؤولين إزالة سوق زنقة الستات من موقعه لتطوير المدينة وتوسعة الطرقات، الا أن تجار السوق اعترضوا بحكم انه واحد من الأسواق والأماكن الأثرية بالإسكندرية التي يجب الاهتمام بها ورعايتها لا هدمها وتغيير معالمها».
من جانبه، قال الحاج عبد المنعم عبد السلام ماضي شيخ عطارين الإسكندرية واحد أعلام الزنقة، والذي أسس محله في العام 1905، مشيرا ان هذا السوق شهد طفرة كبيرة مطلع القرن الـ 19، حيث اكتسبت زنقة الستات اسمها لضيق شوارعها، وازدحامها الشديد، خاصة أن أغلب البضاعة المعروضة تخص النساء، وكان السوق الوحيد الذي يجمع كل طوائف التجار من المغرب وسورية وبلاد الشام، وهو من أكبر وأغني الأسواق، وبالرغم من الأزمة الاقتصادية إلا أن الحركة الشرائية جيدة، وهو من الأسواق المميزة، فرواده من مختلف الطبقات الاجتماعية، من الفقراء والأغنياء، ومتوسطي الدخل، حتى المشاهير، ويكتسب شهرته من العطارة، والأقمشة والمستلزمات النسائية خاصة الفتيات المقبلات على الزواج، وحول سوق العطارة حاليا قال، الإنترنت والقنوات غيرت الزبائن والتي كانت تلجا للتداوي بالعطارة من زيوت، وأعشاب تعطي نتائج تفوق العلاج الكيميائي، لكن مازال لدينا زبائن من الزمن الجميل.
هذا، وأوضح التاجر مسعد حسن أن محلات «حميدو صالح» تعد من أعرق الأماكن التي يقصدها الزبائن لشراء «الكلف» والإكسسوارات، مشيرا إلى أنه بدأ التجارة والعمل بالزنقة منذ أكثر من 90 سنة، وكان معظم تجارها من المغاربة اليهود، وكانت الزنقة عبارة عن وكالات لبيع مختلف أنواع الأقمشة، مضيفا أن العديد من مخرجي السينما والتيلفزيون يحرصون على تصوير بعض المشاهد في الزنقة، ويتردد علينا عدد كبير من الفنانين بالإضافة إلى السائحين من مختلف الجنسيات وأكثرهم من الفرنسيين والإيطاليين واليونانيين الذي يعود بعضهم لاسترجاع ذكرياتهم في المدينة التي عاشوا بها.