لم يكن أحد يتوقع ان يقفز «الملف الفلسطيني في لبنان» الى واجهة الحياة السياسية في لبنان وصدارة الأحداث ومن خارج جدول أعمال المرحلة المزدحم بعناوين كبيرة ودقيقة في لبنان والمنطقة.
كما لم يكن أحد يتوقع ان تخرج الجلسة التشريعية المنعقدة بعد طول غياب عن هدوئها وانسيابها المضبوط الايقاع من الرئيس نبيه بري وان تنتقل مرة واحدة الى صخب سياسي وفرز طائفي طارئ للكتل والقوى النيابية من خارج الفرز السياسي المعمول به منذ بدايات العام 2006. وحصل «الهرج والمرج» عندما تقدم رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط بأربعة اقتراحات قوانين بصفة المعجل المكرر وتدعو الى استفادة الفلسطينيين في لبنان من تعويض نهاية الخدمة والعناية الطبية عن الأضرار الناتجة عن حوادث وطوارئ العمل، كما تؤكد على «حق الفلسطيني المولود على الأراضي اللبنانية في تملك شقة سكنية واحدة، كما يطبق هذا النص على التملك بطريق الإرث»، ولكن اقتراحات جنبلاط جوبهت باعتراضات وتحفظات النواب المسيحيين (كتل الكتائب و«القوات» و«التيار الوطني الحر» ونواب مسييحين في كتلة المستقبل).
الاعتراضات تفاوتت في حدتها وأسبابها: فهناك من يعتبر ان مقترحات كهذه تصب في خدمة التوطين ويمكن ان تكون من مقدماته، وبالتالي فإن اقرار هذه التعديلات يتعارض مع مبدأ دستوري وإجماع وطني حول رفض التوطين، وهناك من رفض الطريقة التي عرضت فيها هذه التعديلات بصفة معجل مكرر لتمرر بسرعة ومن دون ضجة، في حين ان الموضوع يتطلب تأنيا لا استعجالا، وهدوءا لا انفعالات ومزايدات. وهذه الاعتراضات حالت دون عرض المقترحات على التصويت، كما أدت وبعد مشاورات جانبية بين بري ونواب حزب الله وبين الحريري وجنبلاط الى تأجيل البت بالموضوع واحالته الى لجنة الادارة والعدل لمزيد من الدرس والاعداد.
وفي هذا التطور ـ الذي جاء من خارج السياق وبدا كجملة اعتراضية في سياق النص العام للأحداث ـ ملاحظتان:
الأولى: الوضع في لبنان على المستوى الوطني، السياسي والطائفي، مازال على درجة وافية من الدقة والهشاشة، ولم يكن التوصل الى حكومة وحدة وطنية كافيا لإلغاء هذا الواقع أو تجميله والتخفيف منه، ففي كل مرة تطرح فيها مسائل حساسة على التصويت لأن التوافق بشأنها صعب ومتعذر، تطفو الانقسامات والخلافات «على السطح». وهذا ما حصل مرتين خلال أسبوع واحد. وبعد انقسام سياسي في مجلس الوزراء الى «نصفين» (في تحديد موقف لبنان من قرار العقوبات الدولية على ايران) كان البارز فيه تصويت «وزراء الرئيس» الى جانب فريق 8 آذار وتصويت وزراء جنبلاط الى جانب فريق 14 آذار، حصل انقسام طائفي في مجلس النواب بين «نصفين» في تحديد الموقف من مقترحات جنبلاط حول الحقوق المدنية الفلسطينية، كان البارز فيه اصطفاف النواب المسيحيين في جبهة واحدة مضادة، وسبق ان حصل مثل هذا الاصطفاف قبل أشهر عندما تصدى النواب أنفسهم لاقتراح «خفض سن الاقتراع» وتشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، ولم يمر هذان المشروعان بفعل موقف مسيحي موحد ضدهما لقي مساندة ومراعاة من الرئيس سعد الحريري.
ولعل في تكرار تجربة الانقسامات في مجلسي النواب والوزراء ما يشير الى واقع معقد ومتشابك، متحرك ومتنوع على احتمالات خلط الأوراق وتسوده تقاطعات سياسية على مسائل استراتيجية في مكان واتجاه، وتقاطعات طائفية على ملفات داخلية في مكان واتجاه آخر.
الثانية: الاخفاق المتكرر للنائب وليد جنبلاط في الملف الفلسطيني. قبل أشهر حاول جنبلاط الدخول على خط هذا الملف من خلال استحداث وزارة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين وتكليف الوزير وائل أبو فاعور بها، ولكن هذا التوجه اصطدم بواقع ان الملف الفلسطيني يدخل ضمن اهتمام واختصاص الطائفة السنية. وهذه الحالة الاعتراضية اختصرتها استقالة السفير خليل مكاوي من رئاسة لجنة الحوار الفلسطيني ـ اللبناني احتجاجا على مشروع وزارة اللاجئين الذي شق طريقه من دون عمله ويشكل التفافا على لجنة الحوار ويفرغها من مضمونها ودورها.
والآن يحاول جنبلاط مجددا الدخول على هذا الخط من خلال مسألة اعطاء الفلسطينيين حقوقهم ولا يصل الى نتيجة، وربما يكون جنبلاط وقع في خطأ التوقيت كما حصل مع الرئيس بري الذي أخطأ في توقيت طرح مسألة الغاء الطائفية السياسية، وربما ليس فقط خطأ اختيار الزمان وانما أيضا اختيار المكان لأن طاولة الحوار الوطني هي المكان الأنسب لمعالجة ملفات وطنية وحساسة كهذه، ولكن جنبلاط أخطأ بالتأكيد في التقدير السياسي لوضعه وقدراته السياسية التي لم تعد كما كانت، ولميزان القوى السياسي الدقيق الذي يجعل ان الرئيس سعد الحريري سيكون منحازا في موقفه السياسي الى جانب حلفائه المسيحيين في 14 آذار وضد حصول انقسام مسيحي ـ اسلامي، مع انه منحاز عاطفيا الى جانب اقتراحات جنبلاط في الموضوع الفلسطيني، كما يجعل ان حزب الله والرئيس نبيه بري غير متحمسين لخوض معركة سياسية في هذا الموضوع اذا كان الخيار فيها بين جنبلاط وعون، رغم ما يربط بين بري وجنبلاط من صداقة وتحالف، ورغم ما يجمع حزب الله مع وليد جنبلاط من تناغم وتقاطع في هذا الموضوع (حزب الله أفرد حيزا رئيسيا في وثيقته السياسية لموضوع الحقوق المدنية والحياتية للفلسطينيين في لبنان).
ما يدفع جنبلاط الى أخذ المبادرة في الملف الفلسطيني أسباب كثيرة لعل أبرزها انه، وبعد تحوله السياسي وخروجه من 14 آذار، اختار القضية الفلسطينية عنوانا لتموضعه وخطابه السياسي الجديد، ولأنها تشكل المجال الأرحب المنسجم مع سياسته وتحالفاته الجديدة، وأيضا مع علاقاته العربية والمحلية الثابتة، وبادر جنبلاط الى خطوات عملية في هذا الاتجاه منها لقاءات مع دروز فلسطين لحضهم ضد اسرائيل وتنظيم مؤتمرات سياسية وفكرية حول حقوق الفلسطينيين، وعقد لقاءات مع قادة الفصائل الفلسطينية الموالية لسورية.
ولكن اذا كان جنبلاط لم ينجح في فرض وجهة نظره حتى الآن، فإنه نجح في أمرين: استحضار العامل الفلسطيني كعامل توتير وانقسام وقابل للتوظيف في اللعبة السياسية الداخلية، واعادة فتح الملف الفلسطيني في لبنان ومن خلفية «ربط نزاع» لبناني ـ فلسطيني، وانه ينطوي على مشكلة كامنة ويحتاج الى حل عاجلا أم آجلا، وهذا المنحى للأمور يتعارض مع ما كان تحقق من ايجابيات على صعيد العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية بعد قيام حالة حوار وتفاوض في السنوات الماضية وبعدما قطعت عملية فك الارتباط بين الملف الفلسطيني والوضع اللبناني الداخلي شوطا متقدما، أما النتيجة العملية الأولى لكل هذا الوضع الجديد فهي ان موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بات الآن أكثر تعقيدا وأبعد منالا مادامت مسألة الحقوق المدنية التي ربط بها عالقة ومؤجلة.