- من لا يرضى من الساسة باللامركزية الإدارية إما أنه لا يفهم أنها لا تؤثر سلباً على وحدة الدولة أو يعتبرها خطراً على مصالحه
بيروت ـ زينة طبّارة
اللامركزية الإدارية هي المهمة التالية للحكومة ولمجلس النواب في لبنان، ولقد شكل هذا الملف مفصلا مهما وأساسيا في عملية البحث عن دور الدولة وعلاقتها المباشرة وغير المباشرة مع المواطن، فحطت في أدراج المجلس النيابي 4 اقتراحات لتطبيق اللامركزية الإدارية التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) بعد ان تضاربت الآراء حيال كيفية تطبيقها حتى بين المعنيين من رجال السياسة، وبعد ان اختلطت عليهم المفاهيم والتفسيرات بين اللامركزية الإدارية واللاحصرية الإدارية والسياسية، وهو ما استدعى قيام ورشة عمل عامة واستدراج النقاشات للتعريف باللامركزية الإدارية والغوص في أبعادها وتداعياتها وحسناتها ومخاطرها. بالرغم من ذلك يبقى رفع الحظر السياسي عن هذا الملف هو العنوان الأبرز للانتقال به من المخطوطات الورقية الى التطبيق العملي والعلمي على الأرض. كثيرة هي المطبات التي تعتري دب اللامركزية الإدارية. وبناء عليه التقت «الأنباء» عميد كلية الحقوق في جامعة الحكمة د.مارون بستاني، المحاضر في موضوع اللامركزية الإدارية ورئيس «اللقاء الوطني في إقليم الخروب» (قضاء الشوف) وكان معه هذا الحوار:
بداية ما تعريفكم للامركزية الإدارية؟
اللامركزية الإدارية موضوع واسع جدا، إذ يجب علينا في البداية ان نتفق على ان الموضوع برمته ليس مجرد نظرية ثابتة ونهائية، إنما متطورة وقابلة للتعديل والتحسين وتبقى موضوع الساعة الدائم والمستمر، انه منحى إداري تعتمده دولة معينة بعد مروره بمراحل متعددة وبشكل متدرج، وبالتالي فمن غير المعقول ان يقال «لامركزية إدارية» ويتم بعد ذلك إقفال النقاش، وذلك بدليل استمرار الدول المعتمدة لهذا المنحى اللامركزي بإدخال التطورات والتعديلات عليه بشكل متواصل كفرنسا والولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وغيرها من الدول، ما يعني ان رحلة لبنان باتجاه اعتماد اللامركزية الإدارية ستكون على مراحل متعددة بحيث يتفحص في كل منها نتائجها ليحد على أثرها التطورات والتعديلات المطلوبة للدخول في المرحلة التالية.
التباس في مفهوم اللامركزية
لكن هناك تضاربا في مفهوم اللامركزية الإدارية حتى لدى القيمين على تطبيقها.
الطائف أوجد التباسا حول مفهوم اللامركزية الإدارية وخلط بين مفهومها ومفهوم اللاحصرية الإدارية والسياسية، وعلى الدولة اللبنانية هنا في ظل هذا الخلط في المفاهيم الثلاثة ان تحدد ماذا تريد، فمن جهة تريد السير في اللامركزية الإدارية ومن جهة ثانية تعود وتؤكد على المركزية، وهذا الالتباس أدى الى وجود تناقضات في المضمون حيال طرح اللامركزية الإدارية، وذلك بدليل وجود 4 طروحات في المجلس النيابي متناقضة فيما بينها، وأيضا على سبيل المثال إذا قلنا لامركزية إدارية يعني اننا نقول وفقا لبعض الطروحات الحالية ان مجلس القضاء اللامركزي المنتخب، يعين على رأسه موظف هو القائم مقام، فكيف يمكننا التوفيق بين مجلس منتخب ورئيس له معين من السلطة المركزية؟ وأيضا ما صلاحية هذا الرئيس المعين على رأس هيئة منتخبة؟ كل ذلك بسبب وجود تضارب في مفهوم اللامركزية الإدارية والخلط بينها وبين اللاحصرية، وبالتالي على الدولة قبل ان تذهب باتجاه تطبيق اللامركزية الإدارية ان تعرّفها وتعرّف بها ومن ثم يصبح باستطاعتها السير الى الأمام بشكل واضح وعلمي دون إثارة التساؤلات والالتباسات.
يعني ان إسناد رئاسة مجلس القضاء اللامركزي الى القائم مقام هو خيار غير سليم؟
قد تكون الطائفية سببا رئيسيا في إسناد الرئاسة الى القائم مقام كموظف لدى الدولة، لكن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه على الإطلاق لأن من الناحية القانونية قد يصطدم بمحاذير معينة، فالهيئات المحلية او مجالس الأقضية اللامركزية المنتخبة من الشعب تخضع لسلطة الرقابة المتمثلة في السلطة المركزية، فإذا أساءت سلطة الرقابة الى الهيئات المحلية خلال أداء دورها، يحق ساعتها لتلك الهيئات المحلية اللامركزية ان تتقدم بدعوى أمام المحاكم الإدارية انطلاقا من امتلاكها الأداة القانونية الكاملة، فالسؤال البديهي هنا كيف يمكن للقائم مقام وهو في الأساس جزء من السلطة المركزية التي تمارس الرقابة، ان يدعي عليها انطلاقا من كونه رئيس الهيئة المحلية المدعية؟ بمعنى آخر ان يكون القائم مقام هو الجهة المدعية والمدعى عليها في الوقت نفسه يوقعنا في مطبات قانونية لا يمكن تجاوزها والخروج منها بسهولة، فضلا عن ان هذا المنطق يعطل مفهوم اللامركزية الإدارية، إذن الخيار الصحيح هو ان يكون رئيس مجلس القضاء او الهيئة المحلية منتخبا وليس معينا.
مجلس القضاء يلغي مبرر اتحاد البلديات
البعض يتخوف من تطبيق اللامركزية الإدارية اعتقادا منه انها قد تؤدي الى تفكيك الدولة إداريا وماليا؟
العكس هو الصحيح فاللامركزية الإدارية ـ الإنمائية تؤدي الى تقوية الدولة والى انصهار المواطنين ضمن الدولة الواحدة، وتجدر الإشارة هنا للقول ان الدولة هي ظاهرة حديثة بالنسبة للهيئات المحلية التي كانت تتمتع باستقلالية ذاتية وتلك الهيئات سبقت ظهور الدولة بمفهومها الحديث، ثم جاءت بعدها الدولة ووحدت المصالح المحلية وصهرتها ضمن بوتقة الدولة الواحدة، وبالتالي فإن اللامركزية كما هي بمفهومها الصحيح أداة توحيد وليست وسيلة شرذمة وتفكيك. من هذا المنطلق أدعو الى اعتماد اللامركزية كوسيلة تماسك بين مكونات الدولة ولتقريب مفهوم الدولة من ذهنية المواطن.
صلاحيات بدون إمكانيات
أما الموضوع المالي فهو الموضوع الأساسي في اللامركزية الإدارية والأكثر دقة وحساسية فيه، فاتفاق الطائف نص صراحة على تعزيز إمكانيات البلديات واتحاد البلديات وتوسيع صلاحياتها، بينما لم يشر أبدا الى اي شيء حول مالية مجلس القضاء اللامركزي الوارد في وثيقة الوفاق الوطني، إذن هناك اعتراف بالدور الأساسي للبلديات واتحاد البلديات في موضوع التنمية المناطقية وفي عملية الإنماء المتوازن، لكن عملية الإنماء هذه لا يمكن ان تتم بشكل صحيح إلا اذا تركنا للهيئات المحلية أمر الاهتمام بالمناطق التابعة إداريا لها، وذلك لأن الموارد المالية للبلديات والاتحادات محدودة وضئيلة، فالبلديات والاتحادات هي إظهار لمفهوم ومنطق اللامركزية الإدارية بشكل واضح، وبالرغم من ان المادتين 49 و50 من قانون البلديات أعطت لهم صلاحيات واسعة إلا ان الدولة بقيت متمسكة بإمكاناتهم المالية المخصصة لصالحهم بموجب القانون نفسه، الأمر الذي أضعف لديهم عملية التنمية المناطقية وإقامة المشاريع الكبيرة ذات المردود المالي الكبير.
هل لمستم في مكان ما نزاعا سياسيا حول تطبيق اللامركزية الإدارية وبالتالي هو السبب الرئيسي في تعثر تطبيقها؟
السياسة تدخل من حيث المبدأ في كل شيء، فاللامركزية الإدارية مثلها مثل جميع الملفات لها خلفية سياسية، مع العلم ان كل السياسيين ينكرون هذا الأمر، لكن الوقائع أثبتت العكس، وذلك بدليل ان موضوع اللامركزية الإدارية لا يثار ولا ترتفع وتيرة الكلام حوله إلا عند حصول تبدلات سياسية معينة، وتخف تلك الوتيرة تدريجيا مع زوال تلك التبدلات أو زوال رواسبها، علما ان اللامركزية الإدارية بمفهومها الصحيح لا تمت الى الموضوع السياسي بصلة. اعتقد ان من لا يرضى من رجال السياسة باللامركزية الإدارية إما انه لم يفهم انها لا تؤثر سلبا على وحدة الدولة وإما انه يعتبر انها تؤثر على مصالحه الخاصة، والسببان هنا غير منطقيين، لأن في السبب الأول فإن الهيئات المحلية تمارس دورها وفق أحكام القانون وهي خاضعة لسلطة الرقابة وبالتالي لا يمكن ان تكون سببا في تفكيك الدولة، وفي السبب الثاني فإن اللامركزية الإدارية تعزز من سلطة هذا الزعيم السياسي أو ذاك المناطقية، ووفقا للحالتين لا أجد حجة أو تبريرا منطقيا لعدم السير من قبل أحد من السياسيين في هذا التوجه الإداري البحت.
أما التعثر في التطبيق فللأسف أصبح التعثر ظاهرة في لبنان تشمل جميع المواضيع والملفات المطروحة، فلو سلمنا بالقول ان البلد مقسم سياسيا الى مناطق يشرف على كل منها زعيم سياسي معين، ومن لون طائفي معين، فاللامركزية لا يمكن ان تتعارض مع المصالح الشخصية لهذا الزعيم السياسي أو مع ذلك، مع العلم ان احدى حسنات اللامركزية الإدارية هي إنشاء جيل جديد من الشباب لتسلم السلطة أو للتعاطي في الشأن العام يخرج البلاد من حالة الترهل التي يعيشها.