في ظل وضع «ملتبس واشكالي» نشأ في المنطقة الحدودية جنوب الليطاني مع تكرر إشكالات واحتكاكات «مقلقة» بين قوات اليونيفيل وسكان المنطقة، يصعب فهم ما يجري وفك ألغازه، الا انه بالإمكان رسم صورة تقريبية للوضع المستجد من خلال الملاحظات التالية:
1 - من الناحية الميدانية العملانية، وقعت الأحداث في القطاع الغربي لمنطقة انتشار القوات الدولية حيث مناطق التواجد الأساسي للوحدات الفرنسية، ومن بين 27 مواجهة حصلت في الأسابيع الأخيرة بين «اليونيفيل» والأهالي، فإن مواجهة واحدة فقط حصلت مع غير القوات الفرنسية، وهذه الوقائع الميدانية عززت التكهنات والتقديرات بأن وراء هذه الأحداث أبعادا ورسائل، خصوصا ان الصدام الأخير بين الجانبين تطور الى تجريد جنود فرنسيين من أسلحتهم ومن الكاميرات التي استخدموها في تصوير الأحياء في قريتي «تولين وقبريخا».
لقد جرى بشكل أو بآخر ربط هذه الأحداث والاشكالات مع عناصر الوحدة الفرنسية التي تشكل القوة الثانية في «اليونيفيل» بعد الوحدة الايطالية، بالغزل الفرنسي - الاسرائيلي الذي عبر عنه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في طلبه الى الاسرائيليين ان يعلموا فرنسا حين يقررون شن عدوان جديد على لبنان، وأرفق ذلك مع تمنيات بتحييد جنوده المنتشرين في لبنان، اضافة الى حملات وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ضد حزب الله، كما جرى ربط هذه الأحداث بالعقوبات الدولية التي فرضت على ايران في الآونة الأخيرة.
ولذلك فإن ردة الفعل الفرنسي على هذه الأحداث ركزت على أنها تنطوي على رسالة سياسية، وانها لم تكن أحداثا منفردة أو مفاجئة وانما كانت أحداثا منسقة وحزب الله له علاقة بها. ولكن السؤال: من يقف وراء تحريك هذه الأحداث؟
2 - ثمة اختلاف واضح في نظرة كل من الجانب اللبناني (الجيش وحزب الله) والجانب الدولي (قيادة اليونيفيل والأمم المتحدة) الى هذه الأحداث وأسبابها وطبيعتها.
فالجانب اللبناني يركز على البعد الداخلي «العملاني» في هذه الأحداث، مشيرا بنوع خاص الى:
ـ تصرفات قائد الكتيبة الفرنسية التي تتجاوز السلوك المتعارف عليه في عنفها وقساوتها.
ـ اقدام قوات اليونيفيل على إجراء مناورة واسعة النطاق، وغير مسبوقة، دون موافقة من الجيش اللبناني، والاكتفاء بإعلامه بها، خصوصا انها جرت تحت عنوان «محاكاة احتمال شن هجوم صاروخي من لبنان باتجاه الأراضي الإسرائيلية، والتصدي لأعمال شغب محلي». وجرى رفض طلب الجيش اللبناني، بأن يكون عنوان المناورة «حماية المدنيين في حال تعرض الجنوب لاعتداء إسرائيلي».
أما الجانب الدولي فإنه يركز على البعد السياسي و«الخارجي» في هذه الأحداث، وتبدي جهات أوروبية مشاركة في «اليونيفيل» قلقها من تكرار الحوادث وفق مسار تصاعدي، وتعبر عن مخاوفها من وجود مخطط يهدف الى تغيير قواعد الاشتباك في الجنوب، من دون أن تدخل في تحديد الجهة الراغبة في فرض ذلك على الأرض. وتسأل عن الجدوى السياسية من لجوء البعض الى التحريض على «اليونيفيل» والتعرض لدورياتها بذريعة توغلها في الأحياء الداخلية بهدف ترويضها.
وحسب هذه المصادر الديبلوماسية، لا تبدو مقنعة التبريرات التي تطلق في لبنان لتفسير هذه الإشكالات باعتبار ان الأهالي يأخذون على القوات الدولية عدم تقيدها بالقرار 1701 الذي يحدد مهمتها، او ان الاهالي يشتبهون بأن هذه القوات ترغب في تغيير قواعد الاشتباك، في إطار خطة لتسهيل العدوان على لبنان، لا بل ان الارجح ان هؤلاء الأهالي يتحركون وفق تعليمات من حزب الله المهيمن في الجنوب، إن لم تكن عناصره في مقدم المحتجين من الأهالي، وبالتالي تقع هذه الإشكالات في إطار الاستعدادات والمناورات، تحسبا للحرب.
3 - القلق الدولي من طبيعة وخلفيات الحوادث المتكررة، يصاحبه قلق آخر من الموقف اللبناني الرسمي الرئاسي والحكومي (قبل ان يصار الى تصحيح وتصويب له) الذي تبنى وبرر الاحتجاج المنظم الذي قام به الأهالي.
4 - أهمية هذه الأحداث تكمن في «توقيتها السياسي» كونها تتزامن مع اشتداد التوتر في المنطقة (العقوبات الدولية على ايران، وتوتر ما بعد أسطول الحرية، وتعثر المفاوضات)، وما يحكى عن اقتراب موعد صدور القرار الاتهامي عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومع اقتراب «خريف ساخن» مشحون بكل عوامل التفجير، والأهم من ذلك ان ما يجري على أرض الجنوب، يجري قبل أسابيع من الموعد المقرر للنظر في التجديد للقوات الدولية والذي يفترض انه تجديد تلقائي «روتيني» منذ العام 2006 في ظروف عادية وطبيعية. ولكن التطورات تجعل هذا التجديد خاضعا لمراجعة واعادة تحديد الأطر التي من ضمنها تعمل القوات الدولية و«قواعد الاشتباك» التي تحكم عملها.
ولكن لا مصلحة لأحد في انسحاب القوات الدولية: لا مصلحة للحكومة اللبنانية ولا لحزب الله في حصول مثل هذا الأمر بعدما باتت «اليونيفيل» عامل حماية واطمئنان للبنان في وجه أي عدوان اسرائيلي جديد، وأيضا لا مصلحة لإسرائيل في انهيار هذا الوضع الأنسب والأفضل على الحدود مع لبنان، ليس منذ العام 2006 وانما أيضا منذ العام 2000 تاريخ الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، كما انه لا مصلحة للمجتمع الدولي في تعريض الحدود اللبنانية - الاسرائيلية لخطر الانفجار الذي يضع كل استقرار المنطقة وسلامها على «المحك».