فاجأ الرئيس سعد الحريري الجميع،حلفاءه قبل خصومه، بالموقف الذي أطلقه في موضوع اغتيال والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتضمن اعترافا مزدوجا يصدر لأول مرة: الاعتراف بارتكاب خطأ جسيم في حق سورية عبر اتهامها سياسيا بالجريمة. والاعتراف بوجود شهود زور خربوا العلاقة بين البلدين وسيسوا الاغتيال وضللوا التحقيق، وألحقوا الأذى بنا «كعائلة الرئيس الشهيد. هذا الموقف البالغ الأهمية والدلالة كان له وقع الصدمة في قوى 14 آذار التي توازي الصدمة الأولى الجنبلاطية التي حدثت في أغسطس 2009، لا بل تفوقها وتتخطاها بالنسبة للبعض في 14 آذار ممن يعتبر ان «الموقف التحول» عند الحريري حصل من دون مقدمات وتبريرات وفتح الباب واسعا أمام تفسير وتحليل الأسباب والظروف التي أملت عليه اتخاذ هذا الموقف.
الوسط السياسي المنهمك في تفكيك «ألغاز وأبعاد» موقف الحريري باعتباره حدثا سياسيا ألغى ما عداه من أحداث، بما في ذلك أحداث بيروت، توزع في قراءته لهذا الموقف بين اتجاهين وتفسيرين: الأول يعتبر ان هذا الموقف استثنائي في توقيته (مع تقدم المحكمة الدولية واستئناف المفاوضات المباشرة) وشكله (صدوره عبر جريدة «الشرق الأوسط» السعودية) ومضمونه (الذي يقدم تنازلا جوهريا في القضية الأولى قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي رسمت خط الأحداث والمعادلات منذ 5 سنوات وكانت الأساس الذي بنى عليه الحريري الابن زعامته وشكلت القضية المركزية لقوى 14 آذار ومحور خطابها السياسي). ان هذا الموقف يعد تحولا في مسيرة سعد الحريري السياسية، تحول مهم في نظر حلفائه يتمثل في «تسليم أهم ورقة في يده»، وتحول جذري في نظر خصومه يتمثل في أول خطوة عملية باتجاه الخروج من المرحلة السابقة (14 آذار)والدخول في مسار سياسي جديد، مع كل ما تستتبعه هذه الانعطافة من تغييرات متدرجة تفضي الى التخلص من أعباء المرحلة السابقة وأثقالها، خصوصا ان السفينة اللبنانية تسير في هذه الأيام في بحر اقليمي هائج.
وفي اعتقاد أصحاب هذا الرأي ان الحريري دخل في مسار تراجع، وان هذا التنازل الأول من نوعه الذي قدمه سيجر الى تنازلات أخرى بدءا من ادخال تغييرات على الخطاب السياسي الإعلامي وتحديد اطار ووظيفة 14 آذار في المرحلة المقبلة، واجراء تغييرات في فريقه تطال خصوصا من كانوا يعتبرون من «رموز وصقور المرحلة السابقة».
الثاني يعتبر ان الحريري لم يذهب الى تنازل جوهري يقارب «الاستسلام» وانما قام بقفزة نوعية هدف فيها بشكل أساسي الى تدعيم علاقته مع سورية وعملية بناء الثقة فيها.
وكلامه رسالة الى سورية بالدرجة الأولى تنم عن استعداد لديه للمضي قدما في العلاقة الشخصية السياسية التي نسجها مع الرئيس السوري بشار الأسد، وللقيام بكل ما تتطلبه هذه العلاقة من مستلزمات وقرارات صعبة.كما استعداده لسماع نصائح القيادة السورية في المجال المتعلق بتحرير العلاقة الجديدة من كل القيود والأثقال الماضية، وفي المجال الذي يحفظ الاستقرار والمقاومة في لبنان. وهذا الموقف المتقدم من جانب الحريري يعكس أيضا استعدادا لديه للانضواء والانخراط في عملية التقارب والتفاهم السعودي - السوري في لبنان والمنطقة، وتلبية كل ما تتطلبه من تسهيلات ومقتضيات للحصول على شبكة أمان عربية للبنان. وفي اطار هذا التفسير فإن الحريري أعطى ولأول مرة عمليا ما هو مطلوب منه وفق «خريطة طريق» حددتها دمشق لعلاقة راسخة وموثوقة، والحريري في بداياتها الآن. في حين ان جنبلاط نفذ ما عليه وفق خريطة طريق أخرى خاصة به وأصبح في نهاياتها.
تفسيران سياسيان هناك ثالث لهما، وهذا التفسير الموجود ضمن «تحالف المعارضة»، أي حزب الله وحلفائه، يتعاطى بحذر مع موقف الحريري الذي يوصف بأنه «خطوة جيدة وفي الاتجاه الصحيح ولكنها غير كافية»، وبأنه «مهم ولو جاء متأخرا»، كما يبقي على مساحة من الشك في تقدير نتائجه وعواقبه اذا اقتصر على تمتين العلاقة مع سورية ونقلها الى مرحلة التحالف في اطار سياسة الفصل والتمييز بين حزب الله وسورية، واذا جرى تهميش مسألة شهود الزور واعتبارها غير ذات أهمية وتأثير في مسار التحقيق الدولي والقرار الظني الذي يستند الى «شهود آخرين». ولذلك فإن هذا الحذر ترجم بسيل من الأسئلة التي حاصرت الحريري، وبالتساؤل حول امكانية صموده وعدم تعثره وهو يتراجع، كما بالدعوة الفورية الى ان يكون موقفه مقرونا بخطوة عملية هي ملاحقة شهود الزور ومحاكمتهم وتحديد المسؤوليات والجهات التي تقف وراءهم، ومحاسبة من رعاهم وفبركهم واعادة الاعتبار الى الضباط الأربعة.. الخ. على هامش التفسيرات وبغض النظر عنها، فإن النتيجة الأولية والواضحة لمواقف الحريري «الجريئة» انها رسخت علاقته مع الأسد وطوت صفحة أحداث بيروت ورسخت التهدئة وقلصت التوتر السياسي الطائفي وعززت اللغط والابهام حول القرار الظني وأطالت عمر حكومة الوحدة الوطنية.