في سياق المتابعة الدقيقة لتطورات الوضع في لبنان، توقفت الأوساط الديبلوماسية العربية والأوروبية بشكل خاص عند حدثين: الأول أمني تمثل في «عملية الاستقبال السياسي الأمني» التي نظمها حزب الله في مطار بيروت للواء جميل السيد والرسالة التي قصد توجيهها من خلال هذه العملية، وما أدت اليه من تسليط الضوء على انكشاف الوضع الأمني الاداري في المطار ووقوعه في نطاق نفوذ حزب الله وتحت تأثيره. أما الأمر الثاني فإنه يتصل بموقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري وموقعه السياسي في هذه المرحلة في ضوء ما يبديه من تمايز واستقلالية ونزعة الى اعادة تموضع، حيث بادر الى أخذ مسافة من فريق المعارضة ونأى بنفسه عن المعركة التي يخوضها حزب الله ضد المحكمة الدولية. والسؤال الذي طرح في هذه الأوساط الديبلوماسية بشأن بري يتمحور حول أمر أساسي وحيوي هو: هل يمكن البناء على تمايز بري والرهان عليه في تكوين حالة خاصة ومتمايزة في الطائفة الشيعية، خصوصا انه القيادي الوحيد الذي يمثل ثقلا سياسيا وشعبيا ومعنويا في الطائفة ويمكن التعويل على شخصه ودوره؟
في الواقع أثار بري اهتمام و«فضولية» خصومه وتساؤلات وملاحظات حلفائه عبر سلسلة مواقف متلاحقة رسم من خلالها اطارا سياسيا خاصا به وموقعا وسطيا.
ومن أبرز هذه المواقف حسب الترتيب الزمني:
-
1 ـ حرصه في اشتباكات برج أبي حيدر على ان تظل حركة أمل خارج الاشتباك وعلى تظهير موقف الحياد هذا من جهة، ودور الاطفائي الذي قام به من جهة ثانية.
-
2 ـ التمييز الذي أقامه بري بين المحكمة الدولية والقرار الظني، اي الدعوة الى التركيز على ايجاد حل لمسألة القرار الظني بتأجيله أو تغيير مساره من دون مهاجمة المحكمة والدعوة الى الغائها.
-
ومثل هذا التمييز الذي يتناغم فيه بري مع النائب وليد جنبلاط ليس قائما في حسابات حزب الله وأدبياته، وحيث انه فصل نظري لا يمكن تطبيقه عمليا وواقعيا، وحيث ان المطلوب اسقاط القرار الظني كمقدمة الى اسقاط المحكمة الدولية وكجزء من هذا الهدف الواضح والمحدد.
-
3 ـ تعاطي بري الايجابي مع حديث رئيس الحكومة سعد الحريري الى صحيفة «الشرق الأوسط» وإبداء الترحيب والارتياح حياله واعتباره خرقا و«دفرسوارا» سياسيا وتحولا مهما في مسار العلاقة مع سورية، في حين ان حزب الله لم يتفاعل ايجابا مع هذا الحديث لا بل أظهر ريبة وشكوكا حوله وتساؤلات كان أبرزها: كلام الحريري، يعني تبرئة سورية وإسقاط الاتهام السياسي بحقها، ماذا عن تبرئة حزب الله؟ الحريري أقر بوجود شهود زور، ماذا عن الخطوات العملية لترجمة هذا الاقرار بإجراءات لملاحقة شهود الزور ومن يقف وراءهم؟
-
4 ـ عدم مشاركة بري عبر أي ممثل له ولحركة أمل في استقبال اللواء السيد في المطار وعدم إدلائه بأي موقف يدل من قريب أو بعيد على مساندته السيد في قضيته ومعركته ضد الحريري.
وفي ضوء هذه التباينات بين بري من جهة وحزب الله ومجمل فريق المعارضة من جهة أخرى، فإن الاهتمام تحول في اتجاه استكشاف الأسباب الفعلية التي حدت برئيس المجلس النيابي الى اتباع هذا السلوك المتمايز وهذا العزف السياسي المنفرد داخل فريق المعارضة وسط سيل من التساؤلات:
هل لبري مشكلة مع اللواء السيد وتحفظات على الدور المعطى له ليكون «نجم المرحلة»؟ وهل هذه المشكلة شخصية تتعلق بتراكمات الماضي أم سياسية تتعلق بحسابات المستقبل وما يقال عن طموحات لـ «السيد» وأدوار سياسية تعد له ولا يمكن ان تكون الا على حساب بري؟
هل لبري قراءة سياسية خاصة ونظرة الى الأمور تجعلانه غير متحمس للمعركة المفتوحة ضد المحكمة الدولية وغير مقتنع بصوابيتها وجدواها، أو انه متخوف من تداعياتها ومن انزلاقات الى الفتنة والهاوية ولا يريد تكرار أوضاع وتجارب صعبة حصلت في الأعوام الماضية؟
هل لبري حساباته السياسية الخاصة التي أفصح عن البعض منها قبل الانتخابات النيابية وبعدها عندما روج لعملية خلط الأوراق وللكتلة الوسطية وذوبان فريقي 8 و14 آذار. وبعد عودته الى رئاسة المجلس ابتعد قليلا عن المعارضة وابتعد كثيرا عن العماد ميشال عون أحد أبرز مكوناتها، وبث الحرارة في خطوط العلاقة مع الحريري بموازاة علاقة ود واحترام مع الرئيس ميشال سليمان، مبديا من خلال ذلك حنينا الى «حقبة الترويكا» + جنبلاط وميلا الى التعاطي مع سليمان ليس فقط كمرجعية رئاسية وانما أيضا كمرجعية مسيحية في الحكم.
بري في نظر البعض، من الخصوم والحلفاء، حالة سياسية خاصة يجدر التوقف عندها والاعتناء بها وتطويرها والرهان على دور أساسي ومحوري لها في المستقبل. وفي نظر البعض الآخر بري لا يعول على «تمايزه التكتيكي»، وهو محكوم بواقع سياسي يقيده ويضيق أكثر فأكثر هامش تحركه ومناوراته ويجعل تمايزه يقف عند حدود معينة، خصوصيته واعتباراته تنتهي من حيث تبدأ مصالح حزب الله واستراتيجيته السياسية المنسجمة والمتكاملة مع الاستراتيجية السورية حتى اشعار آخر، وطالما استمرت الظروف والمعادلات الراهنة في لبنان والمنطقة.. ولذلك فإن بري المنزعج مما يحدث على جبهتي الحريري وحزب الله لن يخرج في نهاية الأمر عن التضامن الشيعي ولا عن المعارضة ولا عن «الخط السوري».