لم يشهد لبنان منذ زيارة البابا يوحنا بولس الثاني أواخر التسعينيات حشودا ومظاهر شعبية واحتفالية كالتي تنتظر وصول الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد.
ولم يسبق ان حظيت زيارة أي رئيس دولة بهذا الاهتمام السياسي والديبلوماسي، الداخلي والخارجي. كما لم يسبق ان كانت زيارة رئيس دولة مثيرة للجدل في لبنان مثلما هي عليه زيارة نجاد. هذه الزيارة هي في الأساس «زيارة رسمية» تتم تلبية لدعوة الرئيس اللبناني ميشال سليمان وأعد لها برنامج رسمي فيه كل مظاهر التكريم والحفاوة، حيث تقام للضيف الايراني الكبير استقبالات وموائد تكريم في قصر بعبدا ومقر رئاسة المجلس النيابي والسرايا الحكومي دعي اليها ممثلون رسميون وسياسيون عن كل القوى والأحزاب من دون استثناء، كما دعي اليها ديبلوماسيون من دول عربية وغربية لا يعرف حجم تجاوبهم مع هذه الدعوة.
الجانب الشعبي
لكن الزيارة الرسمية أخذت أحجاما واتجاهات وأبعادا خاصة وخرجت عن مسارها الأساسي وأصبح الجانب السياسي الشعبي فيها طاغيا على الجانب الرسمي ويتجاوزه أهمية ومغزى.
الزيارة أعطي لها من الحجم والهالة والخصوصية ما يكفي لأن يكسبها صفة الزيارة التاريخية، خصوصا انها زاخرة بالمحطات الرمزية التي تمدها بشحنات وانفعالات عاطفية وسياسية ودينية... من استقبال «طريق المطار» الى مهرجان ملعب الراية في الضاحية الجنوبية، حيث يخطب الرئيس نجاد والسيد حسن نصرالله في أول ظهور علني «خطابي» له، الى محطة قانا، حيث أضرحة الشهداء... وصولا الى بنت جبيل ومارون الراس التي شهدت أعنف المعارك في حرب 2006 وحيث يوجد «معلم مليتا للسياحة الجهادية» الذي يحوي أسلحة وعتادا وبقايا دبابات وآليات اسرائيلية غنمها مقاتلون من حزب الله. هناك سيقف نجاد وقفة «تاريخية» ليلقي نظرة على «فلسطين المحتلة». هذه واحدة من الرسائل السياسية والأبعاد الاستراتيجية التي تنطوي عليها زيارة نجاد الى جنوب لبنان التي تعلن:
1 - الزيارة تتويج لمسار انتصار ايران في لبنان وترسيخ وجودها وحضورها المتنامي على أرضه، واحتفال بمفعول رجعي بهزيمة الخيار العسكري الاسرائيلي في حرب 2006.
2 - الزيارة التي تأتي بعدما ربحت ايران «جولة العراق» بإبرامها تفاهم الأمر الواقع مع إدارة أوباما الباحثة عن انسحاب بأي ثمن، هي شكل من أشكال الردود على العقوبات الاقتصادية التي تريد، فيما تريد، إضعاف ايران من الداخل وجعل شعبها يستنتج ان هذه السياسة لا تحصد الا الحصار والمصاعب، فيما المشهد اللبناني يظهر ايران قوية الى حد انها قادرة ومستعدة لمساعدة لبنان.
3 - الزيارة دليل اضافي على تداعي المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي للبنان والمنطقة.
4 - وصول الرئيس الايراني الى لبنان عبر سورية بالمعنى السياسي للكلمة يعلن ان المحور السوري الايراني في أحسن أحواله، وان ما ساد من أفكار وأقاويل بشأن إمكان تحييد سورية عن ايران يثبت الآن انه كان وهما.
5 - وصول نجاد الى جنوب لبنان في لحظة وصول المفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينية الى المأزق المبكر يبعث برسالة تذكيرية ان ايران بات لها دور وكلمة ونفوذ وتأثير في أزمة الشرق الأوسط وعملية السلام.
في الواقع زيارة نجاد الى جنوب لبنان هي التي أعطت لزيارته هذا «البعد الاقليمي» ولولاها لما كان هذا الصخب الاسرائيلي الذي يتعاطى مع الزيارة على انها «استفزاز مقصود» يجب ان يقابله شيء مماثل حتى لو انطوى الرد على احتمال ان تتحول الزيارة الى «شرارة الحرب» التي باتت عناصرها وظروفها متوافرة. وهذا الموقف السياسي والاعلامي التحريضي ضد الزيارة الى حد الدعوة الى اغتيال نجاد أو على الأقل افساد زيارته وإلغائها ترافق مع اجراءات أمنية وعسكرية تلامس حالة الاستنفار والتحسب لأي طارئ.
احتجاج خارجي
الزيارة بقدر ما هي موضع اعتراض واحتجاج خارجي، هي مثيرة للجدل داخليا. فهذه الزيارة التي تأتي في لحظة لبنانية حساسة يحتدم فيها الصراع السياسي حول المحكمة الدولية تبدو في أحد جوانبها وكأنها تحمل رسالة في هذا الاتجاه: رسالة دعم لحزب الله في حملته وحربه السياسية ضد أي قرار اتهامي له في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لما لهذا القرار من آثار سلبية وسيئة على دوره وصورته كـ «مقاومة» ضد اسرائيل.
ولأن الزيارة يمكن ان تشكل رسالة دعم وانحياز لفريق دون آخر أو ان تجنح الى تدخل في الشأن اللبناني الداخلي بشكل أو بآخر، فإنها كانت موضع انتقاد وتحفظ وحتى رفض من قوى سياسية أساسية في لبنان وتحديدا قوى 14 آذار. ولكن هذا الموقف السلبي تراجع عشية الزيارة وطرأت عليه تعديلات وصار موقفا ترحيبيا بزيارة نجاد ولكنه ترحيب مشروط بعدم تضمين الزيارة مواقف تسيء الى علاقات لبنان والتزاماته الدولية أو لا تراعي خصوصياته وتوازناته وحساسياته الداخلية، كما صار موقفا يفصل بين سياسة نجاد ومواقفه وزيارته الى لبنان.
لكن تحول قوى 14 آذار الى مهادنة زيارة نجاد حصل لثلاثة أسباب هي:
ـ احترام الأصول واللياقات والتقاليد اللبنانية في استقبال رؤساء الدول وضيوف لبنان الكبار.
ـ مراعاة مشاعر الطائفة الشيعية التي تحتشد لاستقبال رئيس الدولة التي تشكل عمقا دينيا واستراتيجيا لها، وهي في أساس نهضتها وتحولها الى قوة لبنانية واقليمية، ولعل الدعوة المشتركة من حركة أمل وحزب الله للاحتفال بقدوم نجاد ما يعني ان الشيعة كطائفة وجماعة هم المعنيون بهذه الزيارة ورمزيتها ويدعون شركاءهم في الوطن الى مشاركتهم فرحتهم واحتفالهم.
ـ صدور اشارات ومؤشرات ايرانية تفيد بأن الجمهورية الاسلامية بصدد ادخال تعديلات وتغييرات على سياستها في لبنان ونمط علاقاتها وتعاطيها، بحيث لا تعود محصورة بحزب الله وتمارس سياسة انفتاح على كل الطوائف والجماعات، وهذا التوجه الذي باشره السفير الايراني الجديد وترجمه في حركة داخلية مكثفة في كل الاتجاهات، ويترجم اقتصاديا في رفع درجة العلاقات والتبادل والاستثمار. موقفان متعارضان أو متكاملان، في هذه الزيارة التي تكشف عن وضعية متقدمة لإيران في لبنان التي تقدمت على مراحل متدرجة مستفيدة من: الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 المكمل بإخفاق 2006، والفـراغ الناجم عن الانسحاب السوري عام 2005، والضعف العربي الذي ترجم سياسات مرتبكة ومشتتة في لبنان والمنطقة، والوهن الأميركي الذي ترجم أخيرا انسحابا من العراق من طرف واحد وبأي ثمن معلنا سقوط مشروع الشرق الاوسط الكبير.