لم يكد الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد يغادر لبنان حتى أعلن عن زيارة لم تكن مقررة للرئيس السوري بشار الاسد الى الرياض. وبدا من شكليات الزيارة أنها تمت على عجل وأخذت صفة «زيارة عمل» إذ اقتصرت على لقاء مطول في القاعة الملكية في مطار الرياض، واقتصرت المحادثات على الرئيس الأسد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ومستشاره الأمير عبدالعزيز بن عبدالله من دون ان يتسرب منها شيء، وترافقت زيارة الاسد الى الرياض مع الاعلان عن توجه الرئيس سعد الحريري الى العاصمة السعودية في زيارة خاصة ولم يجر أي لقاء بين الأسد والحريري هناك، وفي خلال الزيارة أيضا، وصل مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان الى بيروت قادما من الرياض، وهو يقوم الآن بجولة في المنطقة لم يكن لبنان مدرجا على برنامجها، ما عزز التساؤلات حول سبب هذه الزيارة التي بدت أقرب الى عملية «مداهمة أميركية» للوضع اللبناني وتسببت في قطع الرئيس ميشال سليمان إجازته العائلية في عمشيت.
وصل فيلتمان الى لبنان من بوابة «الوسط». فلقاءاته اقتصرت على الرئيس سليمان وصديقه النائب وليد جنبلاط، واكتفى لضيق الوقت بإجراء «اتصالات مجاملة» مع قيادات قوى 14 آذار وفي مقدمتها الرئيس أمين الجميل ود.سمير جعجع، بعدما كان التقى الرئيس الحريري في الرياض، ولم يتسن له لقاء الرئيس نبيه بري الذي لم يكن متحمسا للقاء ولم يكن منزعجا من عدم حصوله تفاديا للإحراج.
وبعد مغادرة فيلتمان بيروت أعلن عن لقاء ليلي حصل بين السيد حسن نصرالله وجنبلاط الذي حرص على اطلاعه على ما دار في اللقاء قطعا لكل محاولات التأويل والالتباس، كما أعلن عن قمة وشيكة لبنانية ـ سورية يمكن أن تعقد في أي لحظة هذا الأسبوع قبل جلسة الأربعاء أو بعدها.
هذا الحراك السياسي المفاجئ والكثيف الذي أطلق موجة واسعة من التكهنات والتساؤلات حول دوافعه وأهدافه وسط «شح» في المعلومات الأولية، وتضارب في التوقعات المتأرجحة بين:
ـ مؤشرات تنبئ بتسوية بدت خيوطها تنسج ومعالمها تتضح على قاعدة الفصل بين المحكمة الدولية التي خرجت من يد الجميع والقرار الظني الذي يمكن التحكم بموعد صدوره تأجيلا أو استئخارا ومن باب لبناني هو «فتح ملف شهود الزور أمام المجلس العدلي» أو من باب ضرورات دولية إقليمية تقضي بأولوية الاستقرار اللبناني وأهميته في هذه المرحلة.
ـ تكهنات وتقديرات بقرب صدور القرار الظني، وان العد العكسي له قد بدأ مع ما يستدعيه ذلك من حالة استنفار وحركة وقائية استباقية لاحتواء تداعياته ونتائجه وحصرها في أضيق نطاق ممكن.
وبانتظار ان تتكشف خلفيات واتجاهات هذه الحركة غير العادية، والمسألة مسألة أيام لا أسابيع، فإن مصادر سياسية واسعة الاطلاع تورد بشأن زيارتي الأسد (الى الرياض) وفيلتمان (الى بيروت) الملاحظات والنقاط التالية:
1 - لقاء الاسد ـ عبدالله في الرياض يعلن ان العلاقة بين الزعيمين ثابتة ومستمرة، وان التفاهم السوري ـ السعودي مازال ساري المفعول كسقف للوضع والاستقرار في لبنان رغم ما اعتراه أخيرا من اهتزاز في العراق مع وصول عملية تشكيل الحكومة الجديدة الى مراحلها النهائية التي تتحدد فيها الحصص والأحجام الداخلية والإقليمية، ومن اهتزاز أيضا في لبنان مع وصول العلاقة بين الأسد والحريري الى توقف غير محسوب.
2 - الهدف الأول والمباشر للاتصالات السورية ـ السعودية الرفيعة المستوى هو إعادة وصل ما انقطع بين الاسد والحريري، إذ لا يمكن المضي في أي عملية بحث عن تسويات أو مخارج مع استمرار هذه الحلقة الرئيسية المفقودة.
ورغم مداخلات سعودية وتركية (قام بها أردوغان في دمشق)، فإن عملية ترميم العلاقة بين الحريري والأسد تتطلب بعض الوقت والجهد نتيجة تضرر عامل الثقة. فالرئيس الأسد يعتبر، وهذا ما قاله لأردوغان، ان الحريري لم يف بالتزاماته ووعوده وهو (الاسد) كان يفضل ألا يتعهد الحريري بشيء من أن يتعهد ولا ينفذ ما وعد به بغض النظر عما اذا كان الأمر عائدا الى عدم قدرة أو عدم رغبة في التنفيذ.
3 - كما أن نجاح المسعى السوري ـ السعودي بات بتطلب ويفترض اتباع وإسناد التفاهم السوري حول لبنان والخطوط العريضة للوضع فيه (الاستقرار وحكومة الوحدة الوطنية ومنع الفتنة) بآلية عملية تحدد كيفية الخروج من أزمة المحكمة ومأزق القرار الظني، وهذه الآلية باتت محددة لبنانيا في فتح ملف شهود الزور وإحالته الى المجلس العدلي، ما يؤدي الى «استئخار القرار الظني» حتى إشعار آخر، ولذلك فإن نتائج القمة السورية ـ السعودية ستظهر بدءا من جلسة مجلس الوزراء بعد يومين وعلى جدول أعمالها بند وحيد هو ملف شهود الزور، وان كان من المتوقع ألا تنتهي هذه الجلسة الى قرار حاسم ونهائي لمواكبة ما تبقى من اتصالات إقليمية ودولية لم تصل الى خواتيمها بعد.
4 - زيارة فيلتمان الى بيروت أهم ما فيها وما يثير الاهتمام والريبة هو توقيتها السياسي. فيلتمان وصل بعد زيارة الرئيس الايراني التي فاقت التوقعات في حجمها وآثارها، بحيث بدت زيارته في أحد أوجهها ردا على زيارة نجاد وبهدف إقامة توازن أقله في الشكل وعلى مستوى الدعم السياسي بعدما كشفت الزيارة عن «توغل ايراني» داخل لبنان تجاوز حزب الله الى الحكم اللبناني.
فيلتمان وصل أيضا عشية جلسة مجلس الوزراء التي ينظر اليها كجلسة مفصلية ستعطي إشارة البدء في تحديد الخيارات والمواقف الحاسمة والنهائية، وفي فتح الوضع على توازن سياسي جديد في الحكم اللبناني.
وهنا يبدو دور القوة الوسطية التي يمثلها حاليا الرئيس سليمان والنائب جنبلاط دورا مرجحا وأساسيا في التأثير على مجرى الأزمة ووجهتها في الدفع بها باتجاه التسوية ونزع فتيل التفجير الداخلي الذي سيطيح بالحكومة أولا، وإلا سيدخل الوضع في لبنان في دينامية تدهور وتأزم شديد.
زيارة فيلتمان الخاطفة الى لبنان جاءت في توقيت لبناني وإقليمي حساس جدا. في الداخل، سباق مرير مع الوقت بدأ ينفذ قبل صدور القرار الظني وبلوغ الوضع مفترق طرق حاسم، وفي المحيط، الانسحاب الأميركي من العراق أضيف إليه تعثر المشروع الأميركي للمفاوضات على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ولكن واشنطن التي تتصرف في المنطقة على أساس فصل الملفات، وحيث لكل ملف وبلد وضعه وظروفه، لا تعتبر ان ما صح في العراق من تفاهم الأمر الواقع مع إيران يصح في لبنان وينطبق عليه، هناك اعتراف أميركي واضح بنفوذ إيران ودورها، وهنا عدم اعتراف بنفوذ إيران المتنامي ومشروعها الطموح ليس في لبنان، وإنما في أزمة الشرق الأوسط من البوابة اللبنانية.