وصل الرئيس نبيه بري الى باريس في زيارة استقطبت الاهتمام والمتابعة نظرا لتوقيتها السياسي في ظل احتدام الأزمة السياسية في لبنان أو ما بات يعرف بـ «أزمة المحكمة الدولية والقرار الظني».
زيارة بري في الدرجة الأولى هي «زيارة رسمية» بصفته الرسمية كرئيس لمجلس النواب بناء على دعوتين رسميتين تلقاهما من رئيسي مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، وردا على زيارتيهما الى لبنان. والزيارة في الشكل تأتي استكمالا لبرنامج الزيارات الرسمية اللبنانية الى العاصمة الفرنسية بعدما كانت فرنسا دعت الرئيس سليمان العام الماضي والرئيس سعد الحريري مطلع العام الحالي، ومن الطبيعي ان تكتمل حلقة الدعوات بدعوة رئيس مجلس النواب «الشخصية رقم 2» في النظام السياسي اللبناني، ومادامت سياسة فرنسا الثابتة هي في دعم الدولة اللبنانية ومؤسساتها.
ولكن الرئيس بري يزور فرنسا أيضا بصفته السياسية وهي الأهم، كزعيم لبناني سياسي «شيعي» يمثل موقعا متقدما في المعادلة الداخلية، وتربطه علاقات جيدة مع سورية وحزب الله، الى «دوره الوسطي» الذي يتيح له قدرة التواصل مع الرئيس ميشال سليمان والرئيس سعد الحريري، وتدوير الزوايا الحادة بالتنسيق والتعاون مع جنبلاط. وبالتالي فإن فرنسا تعول على بري في هذه المرحلة الحساسة، خصوصا انه متمرس ولديه خبرة وتجربة غنية بالأزمات اللبنانية الداخلية وطرق مقاربتها.
مصادر سياسية واسعة الاطلاع تلخص ظروف زيارة بري الى باريس وخلفياتها وجدول أعمالها في النقاط التالية:
1 ـ باريس قلقة جدا ازاء مسار الوضع في لبنان في ضوء تفاعلات المحكمة الدولية والقرار الظني المرتقب. وجهدت الديبلوماسية الفرنسية في الآونة الأخيرة في استجماع المعطيات وتكوين صورة عما سيكون عليه الوضع في حال صدور هذا القرار وكيف سيتعاطى حزب الله معه، وكيف سيكون انعكاسه على مجمل الوضع السياسي والحكومي والأمني، وأيضا الارتدادات المحتملة له على الوضع في جنوب لبنان ومهام وأمن قوات «يونيفيل» التي لفرنسا مساهمة أساسية فيها.
ولذلك تعتبر باريس نفسها معنية بما يمكن ان يتولد عن القرار الظني من تداعيات متعددة الأوجه، وبعملية البحث الجاري عن مخارج وحلول لهذه المشكلة التي تنذر بنقل لبنان من ضفة الى أخرى.
أهمية زيارة بري تكمن اذن وبالدرجة الأولى في ان باريس تريد ان تبحث مع بري المواضيع الساخنة وعلى رأسها موضوع المحكمة الدولية وكيفية تدارك ما يمكن ان تثيره من توتيرات داخلية سياسية ومذهبية.
2 ـ لا تنوي باريس التدخل في موضوع المحكمة الدولية والتأثير على مجرياتها، لا بل تنصح بعدم ممارسة أي تدخل وبعدم السعي الى تعطيل المحكمة وتقويضها. وهي ستقول للرئيس بري صراحة انها مع المحكمة الدولية التي هي مسؤولة عن تنفيذ عدالة دولية، وهي خارج سيطرة الدول وليس بإمكان أحد القيام بأي شيء بالنسبة للقرار الظني أو بالنسبة للمحكمة. وقرار مجلس الأمن لا يمكن الغاؤه الا بقرار من مجلس الأمن.
كما ستقول باريس لبري انها تدعم حكومة الحريري التي هي حكومة منبثقة عن انتخابات تشريعية وتمثل غالبية ربحت الانتخابات بغض النظر عن موقف جنبلاط.
3 ـ لا يحمل الرئيس بري مقترحات وأفكار حلول لطرحها في لقائه مع المسؤولين الفرنسيين، وخصوصا في لقائه المرتقب مع الرئيس ساركوزي. وسيكتفي بعرض وجهة نظره التي تتضمن ثلاث نقاط أساسية: رفض أي قرار اتهامي يتهم عناصر من حزب الله وأي قرار كهذا سيؤذي لبنان وتكون له انعكاسات سلبية، والرهان على العلاقة السورية ـ السعودية (س.س) في احتواء الأزمة وتوفير شبكة أمان للوضع اللبناني، وتشجيع فرنسا على دور أساسي لها في لبنان والمنطقة، نظرا لعلاقتها الخاصة والتاريخية مع لبنان من جهة، ولعلاقتها الدافئة والحديثة مع سورية من جهة أخرى.
4 ـ فكرة استضافة باريس لمؤتمر حوار يجمع القيادات اللبنانية على طريقة مؤتمر سان كلو قبل ثلاث سنوات طرحت، ولكنها استبعدت لعدة أسباب منها ان الظروف الحالية في لبنان مغايرة لتلك التي كانت سائدة عندما كان هناك فراغ رئاسي وشلل مؤسساتي، ولم يكن هناك من طاولة حوار وطني في حالة انعقاد منتظم وان كان متقطعا، ولم يكن هناك من تفاهم سوري ـ سعودي. وأي محاولة من فرنسا لتنظيم مؤتمر حوار لبناني على أرضها لن تكون نتائجه أفضل من محاولات أجرتها لعقد مؤتمر من أجل مساعدة الفلسطينيين أو لعقد مؤتمر قمة سلام مصغرة.
5 ـ عودة فرنسا الى أنشطتها الديبلوماسية والسياسية على الساحة اللبنانية بالتزامن مع تكثيف حركة تشاورها العربي والأميركي تتزامن مع وضع دقيق وحساس على الساحتين اللبنانية والإقليمية، حيث ترتفع درجة التوتر في لبنان وتنخفض وتيرة المفاوضات والتسوية في المنطقة. ولكنه يتزامن أيضا مع وضع فرنسي داخلي يضغط على الرئيس ساركوزي ويشتت تركيزه ويدفع الى وضع القضايا الخارجية جانبا واهمالها في الفترة الحالية.