لم تكن الأمسية مجرد احتفال تكريمي واسترجاع لسمات عهد ذهبي من النهضة الفنية ـ موسيقى وكلمة ـ بل أكثر من ذلك، اذ بدا ان جوها الرفيع كان متعدد الوقع في جمهورها المتنوع عمرا وثقافة وتجارب فنية.
بدت أجواء القاعة الكبيرة إزاء النتاج المتعدد الذي قدمه صوت مميز تعبق بإعجاب ومتعة كبيرين. إعجاب ومتعة لدى كثير من شبان وشابات الجيل الجديد الذين بنيت اذواق كثير منهم الفنية ضمن «قوالب» تمثل نهجا شديد الاختلاف، انها لذة الاكتشاف والتعرف الى شيء مختلف وجميل. اما المتعة الاخرى فكانت متعددة الألوان خاصة لدى اجيال ممن عايشوا هذا النتاج في الزمن الجميل بل «عاشوا» عليه صبا وشبابا.
وبدا الأمر لدى من ركز على رصد انطباعات الحاضرين من الفئة الاخيرة اقرب الى متعة جاءت مزيجا من الحزن والفرح وتفتحا لآمال واحلام وذكريات وميلا الى «تهييص» ومشاركة المغنية وإن حد من هذا الاندفاع امور منها المكان نفسه والحضور «الأكاديمي» الكثيف وان لم يسلم هو نفسه من الاهتزاز طربا بل شارك في ذلك بحماسة.
اما المناسبة فكانت حدثا قام به «برنامج زكي ناصيف للموسيقى» في الجامعة الأميركية في بيروت. عنوان هذا الحدث كان «اضواء على سنوات النهضة الموسيقية اللبنانية (1950-1975)».
وخصص البرنامج هذه الأمسية لتكريم «المبدع فيلمون وهبة (1916-1985)». احيت الامسية نسرين حميدان بصوتها ذي الشخصية المميزة بمصاحبة موسيقى الفرقة الموسيقية اللبنانية. وأقيمت الأمسية في قاعة «أسمبلي هول» في الجامعة الأميركية.
تألفت الفرقة الموسيقية التي قدمت أداء راقيا ورائعا من غازي مرعي على الكمان وسمير سبليني على الناي ونهاد عقيقي على القانون ووليد أبو سرحال على العود وتولى الايقاع احمد كعكاتي.
غنت نسرين حميدان في الامسية التي أقيمت الجمعة ما لا يقل عن 16 أغنية لكبار المغنين والمغنيات الموسيقيين وشعراء الكلمة المميزة.
وبدا كأن الأمسية أشبه بعملية «إعادة تثقيف» صغيرة لمن فاتهم كل ذلك او بعضه وعملية تذكير بأسماء فنية مهمة كان لها أثرها في الحياة الموسيقية اللبنانية بل العربية.
وبدا للبعض كأن هناك سؤالا يخيم على اجواء القاعة وهو «اين نحن الان من تلك الأيام؟» وتوزعت الاغنيات التي ادتها نسرين حميدان على الأسماء التالية: فيروز ذات الحصة الكبرى التي بلغت ست أغنيات ونجاح سلام وزكية حمدان وسلوى القطريب وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين ونور الهدى وزكي ناصيف.
اما الحان الاغنيات هذه فكانت عشرة منها لفيلمون وهبة كما هو متوقع والباقي لخالد ابوالنصر وروميو لحود والاخوين رحباني ومحمد عبد الوهاب وزكي ناصيف.
بينما كلمات الاغاني كان شعراؤها جوزف حرب والاخوين رحباني ويوسف الحاج ونوفل إلياس وروميو لحود وعبد الجليل وهبي وامير الشعراء احمد شوقي وزكي ناصيف.
قدمت نسرين حميدان اداء مميزا وفي شكل خاص حيث كانت الاغنيات تنسجم مع طبيعة صوتها بشخصيته القوية التي تبدع في الانطلاق وتبقى في الوقت ذاته محافظة على حنان في هذا الصوت.
كانت هذه هي حالها مع معظم الاغاني سواء العاطفي منها او ذلك الذي يفيض ايقاعا مطربا.
من أمثلة الاداء المميز عندما قدمت اغنية «سليمى» التي ادتها قديما الفنانة زكية حمدان وكتبها نوفل الياس ولحنها خالد ابو النصر فحملت الحضور معها الى جو عاطفي رائع بأدائها المؤثر.
وكذلك اغنية «بترحلك مشوار» من غناء الصافي وكلمات عبدالجليل وهبي وألحان فيلمون وهبة و«برهوم حاكيني» لنجاح سلام من كلمات يوسف الحاج وتلحين فيلمون وهبة.
استهلت الامسية واختتمت بأغنيتين كان قد كتبهما ولحنهما وغناهما زكي ناصيف، الاولى «بلدي حبيبي» والثانية «اشتقنا كتير».
ووصف فيلمون وهبة في برنامج الحفلة بانه جمع بين «الملحن الموهوب والكوميدي الناجح فنجح في كلا المجالين وهو امر قلما يحدث علما أن فيلمون وهبه كان ملحنا وعبقريا فطريا وكما قال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب ان موهبته في السماء ولم يدرس الموسيقى او النوتة يوما من الايام».
وقد لحن لأسماء صار أصحابها نجوما كبارا، ولحن للسيدة فيروز 28 أغنية وصفت بأنها من انجح اغنياتها، اما الفنان الكبير الراحل زكي ناصيف فقد توفي في سنة 2004، وفي السنة نفسها تأسس برنامج زكي ناصيف للموسيقى في كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت.