اختار الرئيس ميشال سليمان مكانا وزمانا مميزين للخروج عن صمته السياسي والرد على منتقديه ازاء موقفه من الازمة الراهنة وطريقة ادارته للأمور، اختار رئيس الجمهورية بكركي وصبيحة عيد الميلاد ليعلن، والى جانبه البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وبلغة واثقة وحازمة بعد طمأنته اللبنانيين بان المشاكل السياسية سائرة في اتجاه الحل، وان الموضوع متجه نحو توافق وطني: «مصلحة البلد مسؤول عنها رئيس الجمهورية ولا أحد يحدد للرئيس أي ساعة يصوت أو لا يصوت، فالدستور يشدد على الوفاق وهذه هي روحيته، ورئيس الجمهورية يستكمل المعطيات اللازمة، ويقيم الوضع ويعرف متى ينتظر الوفاق ومتى يذهب الى التصويت، طبعا لا نستطيع تقييد رئيس الجمهورية بصلاحياته، فكل هذا من صلاحياته وعندما يجد الوفاق متاحا لا يذهب الى التصويت».
نادرا ما خرج الرئيس سليمان عن صمته وهدوئه الى الكلام والحدة، وهو فعل ذلك بعدما طالته بشكل مباشر تداعيات أزمة المحكمة الدولية وردا على حملات وصلت الى حد تحميله مسؤولية تعطيل مجلس الوزراء بسبب احجامه عن بت مسألة شهود الزور بإحالتها الى التصويت، وكان سبق ذلك تعطل وتوقف جلسات الحوار الوطني في قصر بعبدا للسبب نفسه الذي أدى الى توقف جلسات مجلس الوزراء، وازاء هذا الوضع المتمادي شعر الرئيس سليمان بانه محاصر بوضع جديد وان هناك من يتهمه بالخروج عن توافقيته والانحياز الى رئيس الحكومة سعد الحريري وفريقه، وان هناك من يملي عليه مواقف وطريقة تصرف على طاولة مجلس الوزراء في تدخل مباشر في صلاحياته الرئاسية أو ما تبقى منها، والتي تندرج تحت عنوان حفظ الوحدة والاستقرار وادارة عملية التوافق الوطني.
ظاهريا، يبدو كلام الرئيس سليمان ردا مباشرا على المواقف الأخيرة للعماد ميشال عون، ولكنه في العمق هو رسالة سياسية لكل من يهمه الأمر، وخصوصا الى الثنائي الشيعي «الرئيس نبيه بري وحزب الله» الذي وضع موضوع شهود الزور على رأس الأولويات وربط به الوضع الحكومي والسياسي برمته، وتنطوي هذه الرسالة التي تعبر عن حالة تذمر وضيق سياسي، على معان وأبعاد سياسية عدة، بينها ان الرئيس سليمان لا يجاري عملية دفع الأمور الى التصعيد ويعتبر ان ذلك ليس من مصلحة أي جهة تقوم به، وان الرئيس سليمان الذي يرفض المزايدة والابتزاز يستند في موقفه من موضوع شهود الزور الى تفهم سوري لهذا الموقف ويستظل بسقف المبادرة السورية ـ السعودية التي تحتاج الى مسار تفاهم وحوار لا الى مسار تصعيد ومواجهة.
يقول مصدر سياسي قريب من قصر بعبدا: «عندما كانت موجة القلق والشكوك تجتاح نفوس وعقول الكثيرين، كان الرئيس ميشال سليمان مطمئنا وواثقا من نتائج المسعى السوري ـ السعودي ومساره المتجه الى الحل، وعندما كان الجميع تقريبا في لبنان منهمكين بتقاذف كرة الاتهامات والمسؤوليات، كان الرئيس سليمان منصبا في جهوده على منع الإخلال بالثوابت والأساسيات: الوحدة الوطنية، الاستقرار السياسي والأمني، التوازن الوطني والطائفي، ومن هذا المنطلق كان موقفه الحازم والعادل في موضوع شهود الزور فأفسح في المجال أولا أمام حصول توافق سياسي حول الموضوع وايجاد صيغة لمعالجته مقترحا تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، ولما لم يحصل هذا التوافق لم يجار رئيس الجمهورية الدعوات الملحة الى التصويت، وفي كل مرة يصل الأمر الى حافة التصويت، كان الرئيس سليمان يمتنع عن وضع الأمور في هذا الاتجاه لعلمه الأكيد بالأضرار الكبيرة والنتائج السلبية التي ستترتب على أي انقسام حكومي سينسحب انقساما في البلد على كل المستويات، وعلى أي أزمة حكم ستفضي سريعا الى فراغ يصعب ملؤه، والى فوضى يصعب السيطرة عليها».
يضيف هذا المصدر: «سيكتشف اللبنانيون بعد حين وفي مستقبل قريب أهمية الدور الوطني الذي لعبه الرئيس سليمان بدقة واحتراف عندما حال دون حدوث انقسام وانفراط عقد الحكومة، وعندما ساهم عبر ذلك في التمهيد للتسوية الآتية وابقاء ظروفها ومقوماتها وأرضيتها السياسية متوافرة، وسيكتشف اللبنانيون أيضا ان هناك يدا لبنانية كانت «تشتغل» بصمت وفاعلية على خط المسعى السوري ـ السعودي، هي يد الرئاسة الأولى، وان هذا المسعى الذي انطلق من بعبدا ومن تحت سقف قمة بعبدا الثلاثية مازال قائما ويحرز تقدما، وان كل ما قيل عن رئيس الجمهورية ودوره في هذه المرحلة كان أحيانا يعكس سوء ظن ونية وافتراء، وأحيانا كثيرة سوء فهم واطلاع، وجهلا بالواقع والوقائع.
ان الاعتقاد بأن الرئيس ميشال سليمان كان على هامش الأحداث والأزمة، أو بأنه لم يقم بدوره كما يجب، هو اعتقاد خاطئ تماما ولا يمت الى الواقع بصلة، والعكس هو الصحيح، لأن الرئيس قام بدور حيوي بعيدا عن الأضواء والأهواء وظل على اتصال دائم بالرئيس السوري بشار الاسد وبالقيادة السعودية بعد اضطرار الملك عبدالله للانتقال الى الخارج للمعالجة، وتابع بدقة وعناية الاتصالات ونتائجها، وبقي على اطلاع على كل التقدم المحقق في اللحظة والتفصيل، ولم يتردد في المبادرة والتدخل لتدوير الزوايا واحتواء التوترات كل مرة استدعى الوضع مثل هذا التدخل، وسيظل الرئيس ميشال سليمان مثابرا على هذا النهج الوطني وهذه الجهود المركزة الى ان تؤتي ثمارها».
يرى الرئيس سليمان ان الآمال معقودة على المساعي السورية ـ السعودية ولكنها وحدها لا تكفي اذا لم تلاقها ارادة لبنانية وطنية جامعة واستعدادات طيبة تهيئ أرضا صلبة ومناخا ملائما للتسوية التي تتطلب تنازلات من الطرفين ولابد ان تنتهي الى «لا غالب ولا مغلوب» ولا يشعر معها أحد بانه «مكسور أو مقهور أو مظلوم» وهذه التسوية التي تتحرك تحت المظلة السورية ـ السعودية الواقية هي في النهاية تسوية لبنانية وطريقها تمر في بعبدا.