إنها لعبة الوقت. الوقت الذي يستنفد المسائل والمشاكل الواحدة تلو الأخرى ويفرغها من أهميتها ومضمونها، ملف شهود الزور لم يعد أساسيا وكأنه وضع جانبا ليصبح جزءا من التسوية المرتقبة وبندا من بنودها، القرار الظني الذي كان موضع ترقب وانتظار شديدين لم يعد كذلك، ثمة أمر آخر ينتظره اللبنانيون بتلهف هو «التسوية» التي إذا ما قيض لها ان تكتمل وتقر ستكون كافية لتجاوز القرار الظني واحتواء مفاعيله وتداعياته.
ولكن التسوية التي تنسج خيوطها بين الرياض ودمشق، مازالت غامضة في مضمونها وأهدافها، وهل تكون لحماية الاستقرار ومنع الانزلاق الى الفتنة أم تكون لتصحيح مسار المحكمة وفك الارتباط اللبناني بها، كما ان التسوية مازالت غامضة في توقيتها وهل توضع وتعلن قبل صدور القرار الظني أم بعده؟ أم انها تبرم قبله وتعلن بعده؟ المسعى السوري السعودي قائم ولكن التسوية متعثرة حتى الآن لأسباب كثيرة: الموقف الأميركي الذي يضع المحكمة الدولية خارج المساومة، الموقف السوري الذي يطلب ضمانات لدور دمشق ونفوذها القديم الجديد في لبنان، موقف حزب الله الذي يريد مواقف حاسمة قبل صدور القرار الظني، موقف الرئيس سعد الحريري الذي يريد ضمانات من الآن لمرحلة ما بعد القرار الظني، بحيث يكون قادرا على ان يحكم وليس فقط ان يبقى رئيسا للحكومة.
ثمة «مفاوضات اتصالات» معقدة وغير مباشرة تجري بين حزب الله والرئيس سعد الحريري عبر القنوات السعودية السورية أظهرت تباينا حول الأولويات على هذا النحو:
ـ حزب الله «يشترط» ان يأخذ الحريري أولا موقفا واضحا وحاسما من المحكمة الدولية والقرار الظني. وهذا الموقف يفتح الطريق أمام البحث في كل النقاط والمسائل التي «تهون» بعده.
في الواقع يرفع حزب الله منذ انطلاقة هذا العام ضغوطه على الحريري ويبعث إليه برسائل ونصائح سياسية مفادها:
ـ الكرة في ملعب رئيس الحكومة ومسار المسعى السوري ـ السعودي يتوقف على موقفه الذي يجب ان يصدر قبل صدور القرار الاتهامي.
ـ الموقف المطلوب منه محدد في نقطتين: رفض القرار الظني اذ كان سيوجه اتهاما الى فريق لبناني، وتعطيل مسار المحكمة الدولية في شقها اللبناني.
ـ فسحة الوقت وهامش المناورة يضيقان، وأي تأخير إضافي يكرس القناعة بأن الحريري يمارس لعبة كسب الوقت للوصول الى القرار الظني.
ـ حسم الحريري لموقفه قبل صدور القرار الاتهامي يعطيه مكاسب وأثمانا سياسية مهمة، والتأجيل بخلفية ان القرار الاتهامي يضع في يده ورقة مفاوضة ومساومة ويعرضه لخسارة كبيرة كمن يخوض مغامرة سياسية.
وباختصار الحريري أمام خيارين: ان يربح الكثير اذا تصرف قبل القرار الظني، وان يخسر كل شيء اذا تأخر الى ما بعد صدوره، والترجمة العملية لذلك تعني ان الحريري في الحالة الأولى سيكون له ما يريد على صعيد الحكومة الجديدة والسلطة المنبثقة عنها سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وان الحريري في الحالة الثانية من الصعب ان يبقى رئيسا للحكومة.
ـ فريق الحريري «يشترط» وقبل اتخاذ أي موقف من المحكمة والقرار الظني الحصول على ضمانات وتأكيدات بشأن مجموعة ملفات وقضايا حيوية وضرورية لحكمه وحكومته، بمعنى ان جدول المفاوضات للتسوية ينطلق من هذه البنود ويختتم ببند المحكمة والقرار الظني، أمام أبرز هذه البنود فيتعلق بآلية الحكم واتخاذ القرارات في مجلس الوزراء وماهية التوافق (حتى لا يصبح تعطيلا) والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات والعلاقات اللبنانية ـ السورية والملفات العالقة فيها.
قد يكون الرئيس الحريري يرمي من هذا الترتيب الى ضمان وضعه بأن يعرف مسبقا ما يأخذ ويحصل عليه مقابل ما سيقدمه ويعطيه، أو انه من خلال مكاسب وتقديمات مسبقة، يريد تجاه حلفائه وقواعده تبرير وتغطية «التسوية» التي تفترض منه موقفا وتنازلا كبيرا لم يكن يخطر في باله يوما: التخلي عن المحكمة ورفض قرارها الظني.
الحريري يقف أمام خيارين: التسوية أو المواجهة، هو لا يريد المواجهة ولا يريد للقرار الظني ان يكون سببا في ضرب الاستقرار واستحضار الفتنة، هو يريد التسوية ولكن التسوية المشرفة التي لا تكون بمنزلة «استسلام».
السباق لم يعد مع الوقت وأيهما يسبق: التسوية أم القرار الظني؟ سباق التسوية أضحى سياسيا وأيهما يسبق: موقف الحريري أم ضمانات حزب الله؟