خرج الرئيس نبيه بري من اجتماعه مع الموفدين القطري والتركي متجهما وعلامات عدم الارتياح بادية على وجهه. كان قد أمضى الليل كله ساهرا ومتابعا تطور الوضع على الأرض بعدما بدأت إثر الاعلان عن صدور القرار الظني عملية انتشار على الأرض على تخوم الضاحية وخطوط تماسها. وضغط بري في اتجاه انهاء هذا الانتشار الذي أعاد الى الأذهان «هاجس 7 أيار» والذي أعلن بدء مرحلة ما بعد القرار الظني وقدم نموذجا أوليا عنها.
قبل خروج أزمة المحكمة الدولية الى الشارع للمرة الأولى منذ انطلاقتها قبل ثمانية أشهر، كان قد حصل تطور سياسي شكل مبعث قلق عند الرئيس بري عندما أخفقت محاولة أخيرة قام بها بالتعاون مع النائب وليد جنبلاط وتقوم على بندين رئيسيين: اعادة تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة مقابل صدور موقف رسمي عنه وقبل افراج بلمار عن القرار الظني، يوافق فيه على ما كان رفضه سابقا ويعلن تخليه عن المحكمة الدولية واستعداده لاتخاذ الاجراءات اللازمة في هذا السبيل بدءا من الغاء بروتوكول التعاون مع المحكمة، وهذه المحاولة لم تنجح خصوصا انها جاءت في توقيت غير مناسب عشية ثلاثة تطورات متدافعة وهي: الاستشارات النيابية التي كان الحريري واثقا من نتائجها لمصلحته، وصدور القرار الظني الذي أصبح واقعا ومعطى «تفاوضيا جديدا»، وقمة دمشق الثلاثية التي تحدد امكانية تعويم التفاهم السوري ـ السعودي وضمن معادلة وصيغة جديدة. «المسعى القطري ـ التركي» الذي يلقى دعما «رسميا» من دمشق ومن السعودية، لا يحمل معه مبادرة محددة البنود والمعالم، وانما ينطلق من حيث انتهت المبادرة السورية ـ السعودية قبل ان تبلغ عتبة «التسوية»، ولكن هل ينجح المسعى القطري ـ التركي بعد فشل المسعى السوري ـ السعودي أو بعدما أفشل؟ وهل ما كان صعبا ومتعثرا يصبح الآن ممكنا ومتيسرا في ظل معطيات جديدة أولها سقوط الحكومة وصدور القرار الظني، جعلت مهمة البحث عن تسويات ومخارج أكثر صعوبة وتعقيدا، اذ لا يمكن تجاهل هذين المعطيين اللذين أعادا الوضع برمته الى نقطة الصفر. حزب الله بدأ يتصرف على أساس ان مرحلة ما بعد القرار الظني قد بدأت حتى قبل ان يتكشف مضمونه، وبدأ ينفذ ما كان حذر منه من ان مرحلة ما بعد القرار الظني لن تكون مثل ما قبلها. وقد أعطى حزب الله نموذجا أو عينة عن طبيعة هذه المرحلة الجديدة عندما مرر عبر انتشار منظم ومدروس (غير مسلح) يصعب وصفه بـ «الشعبي والعفوي» رسالة الى الداخل والخارج غنية بالدلالات رغم محدوديتها في الزمان والمكان: رسالة فحواها ان المبادرة في يده وانه سيلجأ الى كل الوسائل للدفاع عن نفسه في مواجهة قرار اتهامي ظالم، وان على الطرف الآخر الا يقع في خطأ تقدير جديد، وبعد ما فوجئ بإسقاط الحكومة قبل صدور القرار الظني، عليه الا يفاجأ بما هو أشد وأدهى بعد صدور القرار. ويمكن الاستنتاج ان حزب الله الذي وضع عدة سيناريوات وأعطى الأولوية لـ «الوسائل السياسية» ولـ «7 أيار سياسي»، بات في وارد الانتقال الى وسائل أخرى ولـ «7 أيار آخر» في أعقاب تطورين: صدور القرار الظني الذي صار واقعا، وتعثر عملية الحسم بالطرق السياسية التي نجحت في اسقاط الحكومة ولم تنجح في تشكيل حكومة جديدة بغض النظر عن سبب هذا الاخفاق وما اذا كان يتصل بالتقدير الخاطئ لموقف جنبلاط أم بالهامش الذي أتاحته له دمشق.
وفي المقابل، فإن الرئيس سعد الحريري الذي نجح في استراتيجية الوصول الى «القرار الظني» وأظهر صمودا وثباتا في مواجهة الضغوط السياسية الهائلة، ليس ما يدل على انه سيوافق على ما كان رفضه ومازال عند موقفه القائل بأن أي موقف له من القرار الظني لن يصدر الا بعد صدور القرار رسميا واذاعة مضمونه ليبني على الشيء مقتضاه، وبأن أي موقف له من المحكمة الدولية لا يقدم ولا يؤخر لأنه قرار دولي وهي خارج المساومة، وبأن معادلة المحكمة مقابل الحكومة، أي تخليه عن المحكمة مقابل استمراره في رئاسة الحكومة ليست كافية ولا متكافئة. وما يريده هو الحصول على تقديمات ومكاسب تكون في حجم التنازلات المطلوبة منه و«تبرر» تخليه عن المحكمة، وتوافر ضمانات تتعلق بآلية الحكم وتنفيذ اتفاق الطائف والعلاقات اللبنانية ـ السورية، اذ لا يكفي ان يستمر رئيسا للحكومة والمهم ان يحكم ويكون قادرا على ادارة الحكم واتخاذ القرارات لا ان يعيد تجربة حكومته الأولى التي غرقت في دوامة التعطيل والشلل تحت مسمى التوافق وبذريعته.
ولا توجد مؤشرات الى قبول الحريري ما كان رفضه، لا بل كل المؤشرات تدفعه الى التمسك بموقفه والى اعتبار ان موقعه التفاوضي الى تحسن، فالموقف الدولي، الأميركي ـ الفرنسي، داعم بقوة للمحكمة وضاغط على سورية وعاد الى مستوياته السابقة مع عودة لبنان الى صدارة الأولويات رغم وجود مشاكل وأوضاع كثيرة صعبة في المنطقة. والموقف التركي مؤيد لعودته الى رئاسة الحكومة ويتباين مع الموقف السوري، فيما الموقف القطري متمسك بروحية اتفاق الدوحة وبعدم عودة الوضع الى ما كان قبل الاتفاق. والموقف السعودي بات أكثر تفهما لموقفه وأكثر حذرا بعد سقوط حكومته التي كانت ثمرة العلاقة الجديدة بين سورية والسعودية والخيط اللبناني الذي كان يربط بينهما. أما في الداخل فإن الحريري يعتبر انه «كاسب لمعركة التكليف» اذا جرت الاستشارات، وان حالة الالتفاف في الطائفة السنية حوله هي في أوجها، وان جنبلاط مازال قلبه مع 14 آذار وان كان عقله مع سورية وحزب الله ومازال معه في المفاصل الأساسية ومع بقائه في الحكم وان حاول تخريج موقفه بالقول انه في التكليف مع الحريري وفي التأليف مع حزب الله وشروطه. وإذا كانت هذه حسابات الحريري المفترضة، فإن حزب الله في أجواء مختلفة تماما، وهو يعتبر ان ما كان على الحريري ان يقدمه عندما كان رئيسا للحكومة وقبل صدور القرار الظني لم يعد مقبولا وكافيا اليوم بعدما أصبح رئيس حكومة تصريف أعمال وصدر القرار الظني. والثمن الذي عليه ان يدفعه لم يعد على مستوى المحكمة وانما على مستوى الحكم، لأن أزمة الثقة العميقة معه تفترض معادلات وآليات وشروطا جديدة في الحكم.