حصل تحول جذري في لبنان طاول التحالفات وخارطة القوى والمشهد السياسي. ومع اعلان رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أمس عن تكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة جديدة بأكثرية مريحة تبلغ 68 صوتا على الأرجح، تنطلق مرحلة جديدة مختلفة تماما عن سابقتها، ومن أبرز سماتها وميزاتها:
1 - الأكثرية (النيابية والسياسية) انتقلت من موقع الى موقع آخر. فالأكثرية التي حازها فريق 14 آذار منذ العام 2005 خرجت من يده الآن وأصبحت في يد فريق 8 آذار، مع ما يعنيه هذا التحول من تغيير في معادلة الحكم وبلوغ حزب الله مرحلة متقدمة جدا في هذه المعادلة. بين العامين 2006 - 2008 استأثر فريق 14 آذار بالحكومة والسلطة...
بين العامين 2008 - 2010 حصلت عملية تقاسم وتشارك في الحكومة من دون تغييرات في السلطة. ومع مطلع العام 2011 تبدأ مرحلة استئثار فريق 8 آذار بالحكومة والسلطة لأن التغيير لن يقف عند حدود الحكومة وانما سنكون أمام عملية «اعادة تشكيل السلطة». وفي موازاة التغيير في الحكم، هناك تغيير في الخارطة السياسية أولى ترجماته في انهيار علاقة الحريري ـ جنبلاط وفقدان جنبلاط السيطرة على كتلته النيابية...
2 - عملية تبادل المواقع بين فريقي 8 و14 آذار بدأت للتو ولم تنتظر تشكيل الحكومة الجديدة. فريق 14 آذار يصبح هو «المعارضة الجديدة». هو الذي يلعب «ورقة الشارع» احتجاجا واعتصاما للتأثير في مجرى اللعبة السياسية وتوازناتها. في وقت يسحب فريق 8 آذار «عدة الشارع» ويحتكم الى المؤسسات ويترك للجيش مهمة التصدي لـ «الفتنة وأعمال العنف والفوضى» اذا وجدت.
3- ما حصل يرقى في نتائجه ومفاعيله الى مرتبة «الانقلاب». ولكنه «انقلاب دستوري» (هادئ وصاعق) بوسائل سياسية وفي اطار اللعبة الديموقراطية.
ولأنه كذلك، وجد فريق ١٤ آذار نفسه في مأزق سياسي كبير، وجاءت ردة الفعل الدولية والاقليمية «متريثة أو مترددة أو خجولة» لأن انتقال السلطة حققه فريق 8 آذار بطرق سياسية من دون اللجوء الى الشارع، لا لاسقاط حكومة الحريري ولا لفرض بديل عنه. وهذا على الأقل ما يفيد به ظاهر الأمور ومسارها الرسمي.
يقر فريق 8 آذار انه بصدد «انقلاب سياسي»، انقلاب مضاد على الانقلاب الذي نفذه فريق 14 آذار منذ العام 2005.
انقلاب يعيد الوضع الى ما كان عليه قبل العام 2005، ومن المفترض ان يلغي مفاعيل وافرازات مرحلة السنوات الخمس الماضية، بما في ذلك المحكمة الدولية. ويقر فريق 14 آذار بحصول انقلاب.
ولكنه انقلاب مموه جرى تغليفه دستوريا ومؤسساتيا، فيما جرى تنفيذه عن طريق اللجوء الى القوة والتهديد والشارع على نحو ما حدث في ما يسميه هذا الفريق «انتشار الفجر الأسود» (في اشارة الى رجال حزب الله الذين انتشروا بلباس أسود موحد فجر الثلاثاء الماضي)، وعن طريق الانقلاب على اتفاق الدوحة نصا وروحا. هذا الاتفاق الذي تضمن تعهدات بعدم الاستقالة من الحكومة وعدم استخدام الشارع.
4 - أثبت الرئيس سعد الحريري صلابة في الموقف واستعدادا لمواجهة التحدي ورده عبر مواصلته الترشح لرئاسة الحكومة بعد اسقاط حكومته وتلويح المعارضة بورقة ترشيح عمر كرامي.
ولكن الحريري واصل هذا الموقف رغم التغيير الذي أدخله الفريق الآخر على تكتيكه السياسي في معركة التكليف وبات أمام احتمال أو خطر ارتكاب خطأين سياسيين:
- خطأ القطع مع الرئيس الجديد للحكومة نجيب ميقاتي وصد استعداداته للتعاون، والتعاطي معه على انه رئيس حكومة حزب الله. فحتى لو كان وصول ميقاتي الى رئاسة الحكومة حصل من وراء ظهر الحريري ومن دون التفاهم معه، فإنه يصل في اطار سياسي مختلف يجعله أقرب الى «مرشح تسوية» من «مرشح مواجهة». وبالإمكان اقامة تفاهم معه على ترتيبات المرحلة المقبلة حكوميا وسلطويا.
- خطأ الاحتكام الى الشارع، لأن الحريري كان قد التزم في بيان اعلان ترشيحه لرئاسة الحكومة بالمسار الديموقراطي ونتائجه، خصوصا انه ليس أمامه الآن الا ممارسة سياسة الحد من الخسائر، ولأن «لعبة الشارع» لعبة دقيقة هذه الأيام لأنه شارع، وبعد أشهر من الشحن والحقن، قابل للخروج عن السيطرة، فلا تعود الأمور مقتصرة على احتجاجات واعتصامات سلمية وانما تتطور الى أعمال شغب وعنف كما حدث مساء أمس في قطع الطرق الدولية.
مع ما يعنيه هذا التطور من استنفار شارع مقابل شارع وانزلاق الى فتنة، ومن دخول جهات على خط استغلال الوضع وتأجيجه في ظل بيئة حاضنة، أو حتى من وضع شارع 14 آذار في مواجهة قوى الأمن والجيش ووضع هذه القوى في موقف حرج ودقيق.
5 - يخوض تيار المستقبل معركة اسقاط ميقاتي في الفترة الواقعة بين التكليف والتأليف ودفعه الى الاعتذار. وهو نجح الى حد بعيد في «تأليب» الشارع السني وفي تصوير المعركة الحالية بأنها معركة مصيرية، معركة «الطائفة السنية» المعتدى عليها في حقوقها المهانة في كرامتها، عندما يصبح حزب الله الشيعي هو من يختار رئيس الحكومة السني ويضعه تحت وصايته، وعندما يتصرف الفريق الآخر متجاهلا ومتجاوزا نتائج الانتخابات وواقع الأكثرية ومن هو الأكثر تمثيلا في طائفته ولا يراعي الطائفة السنية في الحريري كما تمت مراعاة الطائفة الشيعية في بري.
يصل الرئيس ميقاتي الى رئاسة الحكومة للمرة الثانية وفي ظروف أكثر تعقيدا وصعوبة من ظروف وصوله للمرة الأولى عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عندما كانت سورية متهمة بالاغتيال وكان هو على علاقة جيدة مع الرئيس بشار الاسد.
يجد ميقاتي نفسه محاصرا بحالة من الانفعالات الحادة والتعبئة القصوى في طائفته ولغة التخوين والتحريض. ولكنه وفق مواقف ومؤشرات أولية أطلقها مصمم على عدم التراجع في مهمة يعتبرها «انقاذية»، وعلى اعتماد أسلوب الاستيعاب وتهدئة اللعبة واعادتها من الشارع الى المؤسسات، وعلى عدم استبعاد الا من أراد ابعاد نفسه، وعلى التسلح بنقاط قوة صودف انها ذاتها نقاط قوة الرئيس سعد الحريري: حضور ودور في الطائفة، قوة مالية، شبكة علاقات خارجية مزاحمة مع تركيا وفرنسا وقطر وأيضا السعودية.