عندما حدث انتقال مفاجئ في الأكثرية النيابية من ضفة الى أخرى وسماه البعض انقلابا دستوريا وسياسيا بطرق ملتوية، ووضعه آخرون في نطاق «التداول السلمي للديموقراطية»، ساد اعتقاد ان الحكومة الجديدة ستشكل سريعا وان الأكثرية الجديدة التي أوصلت الرئيس نجيب ميقاتي الى رئاسة الحكومة ستدفع في اتجاه تسهيل مهمته وتسريع ولادة الحكومة.
التأليف، وبعد مرور شهر على التكليف، مازال ضمن المهلة الطبيعية المتعارف عليها في تشكيل الحكومات في لبنان حتى انه لا يمكن الحديث عن تأخير حاصل مقارنة بالمهلة الطويلة التي استغرقها تشكيل الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري رغم انها كانت حكومة وحدة وطنية وكان متفقا على تركيبتها العامة وبرنامجها السياسي. ورغم ان ميقاتي مازال في «فترة السماح» بما خص موضوع التأليف، فإن التساؤلات بدأت تطرح حول التأخير وأسبابه وما اذا كانت عملية تشكيل الحكومة ستستمر في حال المراوحة أم سيكون الرئيس ميقاتي قادرا على كسر هذه الحلقة المفرغة وابتداع حلول وسط عندما تدق ساعة التأليف.
والأنظار تتجه الى العماد ميشال عون أو ما يسمى «العقدة العونية» التي برزت بقوة عند تشكيل حكومة الحريري وكانت سببا ظاهرا في تأخيرها ستة أشهر، والتي تعود لتبرز مجددا مع «حكومة ميقاتي» رغم الفارق السياسي الكبير في الظروف التي أتت بالحريري وميقاتي الى رئاسة الحكومة.
واذا كانت «عقدة عون» تمثلت واختصرت في حكومة الحريري بالتمسك بـ «وزارة الاتصالات» وبتوزير جبران باسيل، فإنها تختصر الآن بتمسك عون بـ «وزارة الداخلية واسنادها الى باسيل».
وثمة ثلاثة أسباب تدفع بعون الى المطالبة بوزارة الداخلية:
الأول يتعلق بميزان القوى النيابي والطريقة التي تشكل بها الحكومة. ومنطق عون هنا «حسابي ورقمي» ويعتبر انه رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية تضم في عدادها 19 نائبا مارونيا، فإذا كانت الوزارات السيادية وزعت على الطوائف الأربع الكبرى وكانت وزارة الداخلية للموارنة، فإنه الأحق بتولي هذه الوزارة، خصوصا ان عملية التأليف الجارية ضمن فريق سياسي واحد تعطي ميقاتي الكلمة الفصل في الحصة السنية وبري وحزب الله في الحصة الشيعية وجنبلاط في الحصة الدرزية، فلماذا لا يعطى هو في الحصة المسيحية المارونية؟
الثاني يتعلق بحسابات المرحلة المقبلة، لأن عون لا ينظر الى هذه الحكومة على انها مؤقتة انتقالية وانما حكومة مستمرة حتى انتخابات العام 2013، هذه الانتخابات التي يعتبرها مفصلية له ولتياره السياسي وفي تحديد من سيحكم لبنان لسنوات مقبلة.
كما ان الأمر لا يتعلق فقط بتشكيل حكومة جديدة وانما بإعادة تشكيل السلطة لأن الحكومة الآتية ستتولى عملية تعيينات واسعة في الادارات والمحافظات والأقضية وستضع قانون انتخابات جديدا. وكل هذه الأمور تقع في نطاق واختصاص وزارة الداخلية.
الثالث يتعلق بعلاقة عون مع الرئيس ميشال سليمان التي تسير من سيئ الى أسوأ، حيث فشلت كل المحاولات ليس في مجال ايجاد اتفاق بين الرجلين، وانما أيضا في مجال «تنظيم الخلاف» بينهما، وهذا الخلاف المتراكم الذي انطلقت شرارته في انتخابات 2008 الرئاسية وتعمق في انتخابات 2009 النيابية، سيكون مفتوحا على «المزيد» كلما اقتربنا من انتخابات 2013 النيابية وانتخابات 2014 الرئاسية، حيث ان عون يتصرف الآن من خلفية ان الساحة المسيحية أخليت له على الأقل في الحكومة، وان الرئيس سليمان لا يمكنه الاستمرار بدور «الرئيس التوافقي» بموجب اتفاق الدوحة الذي أسقطته التطورات الأخيرة، كما ان عون الذي يتحسب لاحتمال دور رئاسي مناهض له في انتخابات 2013 كما حصل في العام 2009 يتطلع الى وزارة الداخلية كواحدة من الضمانات التي يريد الحصول عليها من الآن.
والعماد عون في تمسكه بوزارة الداخلية يقع في خطأ حسابات سياسية، فإذا كان انسحاب كتلة المستقبل حول الحصة السنية في الحكومة للرئيس ميقاتي، فإن انسحاب مسيحيي 14 آذار يحول جزءا من الحصة المسيحية الى الرئيس سليمان حيث لا يمكن لعون ان يتحكم بالتمثيل المسيحي وحده وان يتجاهل رئيس الجمهورية كشريك سياسي وكباحث عن ضمانات تتيح له مع ميقاتي اقامة حد أدنى من توازن سياسي حكومي في ظل الانقسام الحاد. كما يصطدم عون بتحالف متين بين سليمان وميقاتي، حيث يحتاج الواحد للآخر في حكومة صعبة بتركيبتها وظروفها ومهامها، وتتقاطع مصلحتهما على ابعاد عون عن الداخلية.
فالرئيس سليمان لا يتخلى بسهولة عن «ذراع أمنية» لعهده والرئيس ميقاتي حساس جدا في موضوع «الداخلية» واحتمال ان تفتح عملية تصفية حسابات مع رموز المرحلة السابقة في قادتها والذين هم في نفس الوقت أضحوا رموزا للطائفة السنية، ولذلك فإن من الصعب على العماد عون الحصول على «الداخلية» وعلى الأرجح سيكون الحل الوسط مطروحا لها عبر «شخصية وسطية» ترضي سليمان وميقاتي وعون، وعبر ضمانات وتعهدات تعطى في مجال احداث تغييرات في قيادة قوى الأمن على النحو الذي يتم تسريبه منذ أيام بإبقاء اللواء أشرف ريفي في منصبه وابعاد العقيد وسام الحسن من رئاسة فرع المعلومات.
واذا صح الكلام عن «عقدة عونية» فإنه لا يصح القول انها العقدة الفعلية التي تعوق تشكيل الحكومة. فهذه «عقدة ظاهرية» تحجب عقدا أخرى سياسية هي التي تقف في أساس التأخر أو التريث الحاصل في تشكيل الحكومة، ويمكن الحديث أولا عن تريث لدى الرئيس نجيب ميقاتي المتهيب للموقف والمحاط بظروف ضاغطة من الداخل والخارج، وبمداخلات ونصائح عربية ودولية في اتجاه حكومة وحدة وشراكة أو على الأقل حكومة لا تكون من لون سياسي واحد، وكان لابد ان يعطي مثل هذه الحكومة كل الفرصة اللازمة وان يستنفد الجهود قبل ان يحسم أمر حكومته.