بعد عودة الدفء للمحور السوري ـ السعودي والتفاهم حول لبنان وما أنتجه من حكومة وحدة وطنية وزيارة استثنائية لرئيسها سعد الحريري الى دمشق، ساد اعتقاد لدى أوساط كثيرة في بيروت بأن مرحلة سياسية جديدة بدأت وستكون مختلفة تماما عن المرحلة السابقة، وبأن تغييرا ملموسا سيحصل على مستوى الفرز والاصطفاف السياسي للقوى، بحيث لا يعود «حادا وفاقعا» بين معسكرين.
ووصل الأمر عند بعض الأوساط الى حد توقع عملية تذويب سياسي متدرج لفريقي 8 و14 آذار وحصول تداخل فيما بينهما، كان المؤشر الأوضح عليها واشارة البدء فيها خروج جنبلاط من 14 آذار الى موقع جديد هو عمليا أشبه بـ «اللاموقع».
ولكن ما حصل بعد الحكومة وزيارة الحريري الى دمشق، ان الخارطة السياسية لم يطرأ عليها تغيير ملموس وسريع، وانما مازالت خاضعة لفرز وميزان قوى المرحلة السابقة. وتحت سقف سياسي رسمه التفاهم السوري السعودي، وفي ظل مرحلة انتقالية «رمادية» تجتازها المنطقة، تحصل اهتزازات سياسية داخل كل فريق وتحصل تقاطعات ولقاءات جانبية وموضعية بين جهات متقابلة ولكنها لا ترقى الى مستوى «اختراقات وتحولات»، وهي تغييرات في المشهد السياسي أكثر مما هي تغييرات في الواقع السياسي، ويمكن ان تؤشر في أقصى التوقعات الى تغييرات هادئة وبطيئة تماشيا مع الايقاع البطيء لتطورات المنطقة وللسياسة الاميركية فيها.
ومن أبرز ما سجل في المشهد السياسي اللبناني من تغييرات وعلامات فارقة منذ مطلع هذا العام:
1ـ تراجع في العلاقة بين الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط رغم حرص الطرفين على العلاقة التحالفية والتأكيد عليها.
جنبلاط يواجه صعوبة أكثر فأكثر في التوفيق والجمع بين موقفين نقيضين: الخروج من 14 آذار والبقاء في الأكثرية.
وفي حين يتفهم الحريري ظروف جنبلاط واعتباراته الخاصة من دون ان يوافقه على أسلوبه وهذا الكم غير المبرر من التنازلات السياسية والمعنوية، فإن جنبلاط المرتاح الى زيارة الحريري الى دمشق التي وضعتهما معا في تموضع سياسي واحد، يتملكه الحذر والتوجس ازاء تمسك الحريري بتحالف 14 آذار، وتحديدا بـ «مسيحيي 14 آذار»، وكان يتوقع تحولا جذريا من جانب الحريري يشبه تحوله ويماشيه.
2ـ تحسن ملموس في العلاقة بين الحريري وقوى منتقاة من المعارضة أبرزها سليمان فرنجية وطلال ارسلان. أما العلاقة بين الحريري والعماد ميشال عون فإنها سجلت «انفراجا وانكسارا» في حدة الحملات وحال العداء السياسي، ولكن عوائق سياسية كثيرة تحول دون تطورها وصعودها الى مستويات متقدمة أكثر.
3ـ التوتر السياسي المستأنف بين الرئيس نبيه بري وعون، هذا التوتر يمكن ان يفيد عون في تعزيز وضعه المسيحي عندما تتاح له فرصة التعاطي مع ملفات سياسية دقيقة تعني المسيحيين وتثير اهتمامهم (الطائفية السياسية، خفض سن الاقتراع، التعيينات).
ولكنه يسيء من جهة أخرى الى وضعية المعارضة عندما يضيء على تعارض داخلها حيال المسائل المتعلقة بمعادلة الحكم والطوائف، ويسهم في ابراز عملية الانتقال من مرحلة المصالح السياسية المتشابكة الى مرحلة «المصالح المتنافرة».
4ـ بداية تحسن في العلاقة بين بري والحريري بمبادرة من الأول الذي قرر الانفتاح على رئيس الحكومة والتحرك في اتجاهه بعدما اكتشف انه المتضرر الأول من سوء التواصل والتنسيق بينهما، وبعدما تأكد له ان موقف الحريري هو الذي شكل العامل الأساسي في تقويض وتعثر طروحاته الأخيرة التي اصطدمت بحالة اعتراضية مسيحية حظيت بدعم وملاقاة من الحريري.
5ـ تطور في العلاقة بين عون وجنبلاط، ولكن هذا التطور السريع الايقاع يبدو محدودا ومحددا من الناحيتين الجغرافية (الجبل) والسياسية (مسألة المهجرين)، ويقف عند حدود علاقة جنبلاط مع الرئيس ميشال سليمان والبطريرك نصرالله صفير من جهة، ولا يذهب الى أكثر من اثارة مسيحيي 14 آذار واستفزازهم.
6ـ تقارب وخطوط حوار وتواصل ينسجها النائب سامي الجميل (الذي غاب عن لقاء البريستول) مع كل من سليمان فرنجية وتيمور جنبلاط، وبدرجة أخف وبصفة شخصية مع قيادات شابة في التيار الوطني الحر.
7ـ تقاطع والتقاء بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية في ملفات ذات اهتمام مشترك. وهذا التلاقي الذي حصل موضوعيا وعفويا، وليس مخططا له، غير كاف كي يؤسس لأرضية سياسية مشتركة ولكنه كاف لكسر حدة الخصومة السياسية وعلى مستوى قواعد الطرفين، ولإرساء نمط علاقة وتعاط لا تعطى فيها الأولوية لمصالحات عابرة ووحدة الصف. وانما تتقدم فيها «وحدة الموقف» كلما دعت الحاجة على قاعدة تنظيم الخلاف وابقائه في الاطار السياسي والالتزام بالثوابت الأساسية.