عادت العلاقة في تركيا بين المؤسستين السياسية والعسكرية الى مسار التوتر والتصادم، وتسارعت التطورات بين حكومة حزب العدالة والتنمية المنبثق عن التيار الاسلامي وجيش الدولة المعروف بأنه حامي النظام العلماني في البلاد فقد ألغى رئيس الأركان التركي الجنرال ايلكير باشبوغ زيارته المقررة الى مصر لثلاثة أيام. اما الرئيس عبدالله غول ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان فاجتمعا مع رئيس الأركان لمعالجة الوضع. والمعارضة التركية تطالب بانتخابات مبكرة من أجل اخراج البلاد من الأزمة، ماذا يجري؟ أمرت محكمة في اسطنبول بتوقيف 11 ضابطا عسكريا وتوجيه الاتهام إليهم بالتآمر للانقلاب في 2003 على الحكومة التركية المنبثقة عن التيار الاسلامي، في قضية أججت الصراع بين الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية.
خطوة القضاء التركي الشجاعة قابلها الجيش بإعلان حالة طوارئ داخلية. جمع رئيس الأركان كبار الضباط في أنقرة ومحافظات تركيا في اجتماع، يذكر باجتماعات رئاسة الأركان عشية قرارات 18 فبراير 1997 التي مهدت للاطاحة برئيس الحكومة حينها الاسلامي نجم الدين أربكان.
ردت قيادة اركان الجيش على الاعتقالات مشيرة في بيان الى اجتماع استثنائي ضم آل الضباط من رتبة جنرال واميرال لتقويم الوضع الذي وصفته بأنه «خطير»، ورأى محللون عسكريون في هذا الاجتماع الاستثنائي وسيلة لكي تبدي رئاسة الاركان دعمها المعنوي لضباطها دون الرغبة في التدخل في الاجراءات القضائية. وأكد رئيس الاركان ايلكر باشبوغ مؤخرا احترام الجيش للدولة، مشددا على ان عهد الانقلابات العسكرية ولى في تركيا التي تطمح للانضمام الى الاتحاد الاوروبي.
تميز الاجتماع بأهمية لجهة انه شمل كل الجنرالات الكبار، ثم انه يأتي قبل أيام من الذكرى السنوية لـ 28 فبراير 1997. ولقد وقع اجتماع الجنرالات بمنزلة الصدمة في الأوساط السياسية، وسارع نائب رئيس الحكومة جميل تشيتشيك للذهاب إلى رئاسة الأركان لبحث الموقف، نظرا لوجود اردوغان في اسبانيا، وقت الاجتماع. ورأى محللون عسكريون ان الاجتماع الاستثنائي لقيادة الأركان هدف الى إظهار دعمها المعنوي للضباط دون الرغبة في التدخل في إجراءات القضاء. لكن بعضهم اعتبر ان عدم تحرك الجيش يمكن ان يشكل بداية النهاية لدوره السياسي في البلاد، على اساس أن الاعتقالات ستشكل رادعا مهما وقويا ضد أي انقلاب عسكري في المستقبل، علما ان المؤسسة العسكرية نفذت اربعة انقلابات منذ 1960، آخرها العام 1997، حين أجبرت حكومة اربكان ذات التوجهات الإسلامية على الاستقالة.
للمرة الأولى تطول الاعتقالات رؤوسا عسكرية كبيرة، بعضها متقاعد والبعض الآخر لايزال في الخدمة. ويواجه الجيش التركي حامي المبادئ العلمانية في النظام، التحدي الأكبر لسلطته بسبب الاتهامات الموجهة الى كبار قادته بالتآمر على الحكومة. وطالت القضية الأخيرة ضباطا لطالما كانوا في منأى عن أي مساءلة، مثل رئيسي أركان القوات البحرية والجوية اللذين افرج عنهما بعد استجوابهما من قبل النيابة.
ويصعب خارج تركيا فهم الدور السياسي الذي يضطلع به الجيش، وتحديدا لدى الاتحاد الأوروبي الذي تطمح تركيا للانضمام اليه. ففي تركيا لا ترتبط رئاسة الأركان العسكرية بوزارة الدفاع، انما برئيس الوزراء، والجيش التركي هو الجيش الوحيد بين الدول الغربية الذي احتفظ بصلاحيات مهمة حتى العام 2003، عندما قلص البرلمان الدور السياسي للعسكريين تماشيا مع المعايير الأوروبية، غير انه مازال يشارك في تحديد السياسات الخارجية من خلال مجلس الأمن القومي، حتى ان كان دوره في هذا المجلس أقل مما كان عليه قبل 2003 وتشكل المبادئ الكمالية، نسبة الى مصطفى كمال أتاتورك (1881 ـ 1938) حجر الأساس للعقيدة العسكرية في تركيا.
تعتبر «عملية المطرقة» التي نفذت الاثنين الماضي واحدة من أوسع عمليات الاعتقال في صفوف الجيش التركي، وتحديا غير مسبوق لهيبة الجيش وسمعته. ومع أن القضاء، أو بعض القضاة، هم الذين يقودون حملة الاعتقالات والتحقيقات، فإن مسار التطورات الداخلية في تركيا يلقي بظلال ثقيلة على المشهد السياسي الذي تتراكم في سمائه غيوم سوداء كثيرة تنذر بما هو أسوأ في صراع سياسي حاد لم تشهده تركيا من قبل، مع فارق أن ميزان القوة لا يميل كاملا، كما كان في السابق، إلى جانب المؤسسة العسكرية وحلفائها.