لاحظ محلل سياسي في بيروت ان الأفرقاء المسيحيين يتمتعون حاليا بهامش «الدلال» الواسع وأصحاب الحظوة في ابراز خصوصية مكنتهم من ان ينبروا الى دور مبادر، ولو ضمن لعبة داخلية محدودة الأفق واقعيا ولا تتصل فعليا بالتأثير على المجريات الاقليمية الأوسع. ومع ذلك كانت «مبادرة» متعددة الوجه وسجلت في خانة «المسيحية السياسية» الفعالة.
ولكن تقاطع القوى المسيحية قاطبة على مسائل تتصل بـ «الوجود» المسيحي او بثقله او بمستقبله، لا يبدو وحده عامل امان وضمان استمرار ما دام مفتقرا الى أفق أرحب يصل مبادرة هذه القوى باستراتيجية واضحة للنظام واختلالاته وأمراضه على الضفة الداخلية وإمكانات إنقاذه وديمومته على الضفة الخارجية.
بذلك يتوجب على القوى المسيحية ان تعترف بأن تقاطعها النادر على مسألتي إلغاء الطائفية وخفض سن الاقتراع كان تقاطعا سلبيا، أي ان القوى المسيحية توافقت على الرفض ولكنها لم تقدم في المقابل البديل العملي والنهج السياسي ذا الأفق المفتوح على الاصلاح الداخلي الشامل. في الواقع، أعلت القوى المسيحية خصوصية مختلفة بالمقارنة مع أحوال الشركاء الآخرين، حلفاء كانوا ام خصوما في ملعب التنافس.
الشريك الشيعي يبدو موزعا بين مستلزمات التحدي الإقليمي الأكبر الموصول على افق التهديدات الإسرائيلية والملف الإيراني وموجبات الشراكة الداخلية في السلطة مما يعرضه لاحراجات كبيرة عند حدود التحالفات والخصومات، كما ظهر الأمر في ملفات إلغاء الطائفية السياسية وخفض سن الاقتراع وكذلك استحقاق الانتخابات البلدية.
والشريك السني يبدو بدوره موزعا بين «المسؤولية الرسمية» الحكومية في حراسة التسوية السورية ـ السعودية والحد من تكاليفها على جبهة الأكثرية والحلفاء، كما عكس ذلك الامتناع المؤلم عن التصويت على خفض سن الاقتراع.
اما الشريك الدرزي يبدو أيضا في ذروة لحظة التثبيت المحرج لوسطية شديدة الحساسية بين «نصف اشتراكي حزبي» و«نصف سياسي متحرر» على وقع عد تنازلي طويل لزيارة النائب وليد جنبلاط لدمشق التي أضحى موعدها الغامض أشبه باللغز الذي لا فكاك لحله رغم الموجات الكثيفة المتعاقبة للتوضيحات والتصويبات والتصحيحات والمصالحات وسائر مشتقاتها.
وفي قراءة لمحلل سياسي آخر، فإن الإضافة التي يمكن رصدها في المشهد السياسي أن الواقع الذي يقوم عليه الاصطفاف الحالي لم يعد ثنائيا بل أضحى ثلاثي الأبعاد.
والدوافع التي تتم عليها الاصطفافات الحالية لم يعد موضوعها سياديا حصرا، بل انضمت إليه قضايا ذات طابع سياسي، تنموي وإصلاحي، وكل ذلك يفترض إعادة خلط للأولويات، فقد تم تشكيل مساحة استثنائية أوجدها خطاب «الوسطية» الذي استهله وليد جنبلاط في البداية ومهد لـ «تمايز» سعد الحريري عن 14 آذار لاحقا (تكرس ذلك في الخطاب الذي ألقاه في الذكرى الخامسة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري)، وفتح الباب أمام حركة سياسية لميشال عون تتجاوز إطار 8 آذار.
كثيرة هي الأطروحات التي تستدعي اصطفافا سياسيا من حولها يقوم على أساس 8 و14 آذار كسلاح حزب الله أو موضوع المقاومة في شكل عام والعلاقات مع سورية ومدى ارتباط لبنان بالوضع الإقليمي والصراع العربي ـ الإسرائيلي وبالملف النووي الإيراني والتهديدات الإسرائيلية وغير ذلك.
وفي المقابل، كثيرة هي الأطروحات التي تستدعي الخروج من الاصطفاف التقليدي، وهناك قضايا تستوجب اصطفافا مسيحيا يتلاقى حولها ميشال عون ومسيحيو 14 آذار مثل اقتراح خفض سن الاقتراع إلى الـ 18 عاما واقتراح تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وغيرها، وهناك دوافع تتعلق بحساب الانتخابات المقبلة البلدية والنيابية أيضا. تدفع الحال هذه بالقوى السياسية اللبنانية إلى التوسيع في دائرة خياراتها وعلاقاتها بكل ما يتصل بـ «التكتيك» المسموح به أو بالتموضع على أساس الموقف من اختلال التوازن الطائفي. وهذا ما يعطي المشهد اللبناني نوعا من الفرادة في فسحة زمنية ربما تطول بعض الشيء.
التسوية السياسية التي فرضت على الأطراف والقوى اللبنانية بعد الانتخابات النيابية لم ترق حتى الآن إلى اعتبارها تسوية ناجزة بالمعنى الذي عكسته الأجواء الإيجابية التي واكبت تحسن العلاقات بين لبنان وسورية، ذلك أنها عجزت عن تطبيق مقررات الحوار الوطني التي توافق عليها اللبنانيون عام 2006 وعجزت عن التوصل إلى حل لموضوع الاستراتيجية الدفاعية، وهو ما يبشر بأن السياق المتوافق عليه يتلخص بانتظار استحقاقات داخلية أو إقليمية تعيد إنتاج تسويات أخرى في المستقبل.لذلك ربما لايزال مطلوبا من اللبنانيين الإبقاء على اصطفافاتهم التي تعبر عن الحاجة إلى التحضر لدخول موجة جديدة من التجاذب السياسي الذي قد ينشأ على عناوين خلافية لا يتم بتها حاليا، وهذا ما يحصل من حين لآخر بالنسبة إلى كثير من القضايا المختلف عليها بين اللبنانيين.
حزب الله غير مستعد لفرط عقد تحالف 8 آذار، والرئيس سعد الحريري غير جاهز لفرط تحالف 14 آذار. بالنتيجة، فإن القوى الأساسية في لبنان وامتداداتها الإقليمية لاتزال تتمسك بالاصطفاف القائم وذلك رغم دخول جميع القوى السياسية إلى حكومة اتحاد وطني وغياب معادلة معارضة ـ موالاة، ورغم تطور العلاقات اللبنانية ـ السورية إلى حد مقبول نسبيا، ورغم المصالحة السورية ـ السعودية وزيارة الحريري لدمشق وتصاعد التهديدات الإسرائيلية لكل من سورية ولبنان.