أشار عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد في كتابه «علم نفس الجماهير»، إلى أن الجماهير أو الجموع الشعبية لديها القدرة على تخليص الفرد من سماته الخاصة المنفردة أمام أهداف الحشد أو الجماعة، فالمجموع الشعبي لا يعبر بشكل مباشر عن خصائص أفراده المكونين له، فللجماهير سمات نفسية مختلفة ومتفردة، فأهداف المجموع رغم وضوحها وبساطتها إلا أنها أكثر حيوية وقوة من أهداف الفرد أيا كانت مرتبته أو ترتيبه في المجتمع.
القذافي قائد الثورة الليبية حكم ليبيا أكثر من 40 عاما، توحد مع السلطة، أكسبته هذه السلطة المطلقة والحكم لمدة طويلة تغييرا في المعرفة والأفكار وخلل بالمنظومة الفكرية، والعديد من الأمراض النفسية التي لا يدركها ولا يعيها، وليس لديه أي بصيرة عنها، ما يؤكد علميا أنه ينطبق عليه كل مواصفات الشخصية «السيكوباتية» العدائية للمجتمع التي تمثل خطرا حقيقيا على من حوله.
فشخصية القذافي من الجانب النفسي هي شخصية هستيرية، مركبة، تشوبها العديد من الاضطرابات النفسية، التي تتضح بداية من ملابسه الفولوكلورية مرورا بلغة جسده وإيماءاته وصولا لخطاباته التي أصبحت مجالا للسخرية، فمن الوهلة الأولى التي يظهر فيها القذافي مرتديا ملابسه الغريبة والمختلفة تتضح رغبته في الظهور ولفت الانتباه، وحب الاستعراض، إرضاء لذاته وتضخم شعوره بها، اعتمادا على ضلالاته الفكرية الخاصة واعتقاده فيها، كأمجاده وأمجاد أجداده، وشعوره بالاختلاف والتفرد والتميز، ما يؤكد على تضخم الأنا.
يلي ذلك لغته الجسدية، وإيماءاته الحركية التي تدل على أنه شخصية مضطربة غير قادرة على التوافق أو التكيف، وتقبل الوضع الراهن، أو حتى التحكم في انفعالاته الناتجة عن حالة خوف شديدة يحاول إخفاءها خلف هذه الانفعالات والتهديدات لمعارضيه، تحمل خلفها دلالات عن توتره الشديد إزاءهم وقلقه على أن يفقد الزعامة التي صنعها طوال عقود، ولكنه يخشى أن يظهر بمظهر الضعيف غير القادر على إدارة الأمور، فطبيعة شخصيته النرجسية البارانويديه التي تتسم بالتعالي، تفرض عليه أن يكون محور الارتكاز، ومحط الأنظار، ومصدر القوة والسلطة الوحيد، لا يوجد غيره على الساحة ولن يسمح بظهور آخرين، ومعارضوه ليسوا من أبناء شعبه، بل انهم مرتزقة، أو ضمن تنظيم القاعدة، حتى يكسب نفسه مشروعية قتلهم ومحاربتهم، ويفرض ذلك على أعوانه ومؤيديه، وهذا يعكس أفكاره الخاصة وهلاوسه وضلالاته الفكرية فمن المستحيل يدرك أن شعبه الذي يعتبر نفسه هدية لهم وأنهم لا يستحقونه، قادر على فعل ذلك إلا نتيجة لعوامل خارجية تؤثر عليه.
وبالنسبة لخطابات القذافي الأخيرة فهي تظهر حالة من التوتر والترقب، الذي حاول إخفاءها تحت عبارات التهديد والترويع لمعارضيه، ووصفهم بالجرذان والكلاب الضالة، وأنهم يتعاطون حبوب الهلوسة التي تجعلهم غائبين عن الوعي لا يدركون تصرفاتهم. ويعتبر ذلك حالة إسقاط عن عدم قدرته الشخصية على إدراك الوضع الحالي وعدم وعيه بها ورفضها، فيحاول أن يصف معارضيه بهذه الصفات على أنهم غير واعين أو مدركين لما يفعلون.
القذافي يفتقد الأمان النفسي
لا يقتصر الشذوذ والاختلاف في التصرفات ولغة خطاب القذافي فقط، بل يتعدى ذلك إلى سمات شخصيته، فالأكثر غرابة في حياته، الحارسات الملازمات له، فحارساته الشخصية من النساء الجميلات يقسمن على الولاء لحياته، ويختارهن بعناية خاصة وفق معايير محددة أهمها ألا يتعدى السن العشرين عاما، والعذرية وعدم الزواج، وتوافر قدر معين من الجمال، والقوام الفارع والبنية القوية الشبيهة ببنية الرجال، والولاء المطلق له، وهذا مبدئيا يتنافى مع ما ذكره في كتابه الأخضر أن مكان النساء هو البيوت لأن تكليفهن بوظائف الرجال يفقدهن أنوثتهن وجمالهن، ولكن هذا يؤكد على رغبته في التفرد والاختلاف والتمييز عن باقي الشعب وعما يعلنه هو بذاته، ووجود هؤلاء الحارسات له دلالة قوية وهى التأكيد على الجانب الأنثوي في شخصيته، ورغبته في الحماية الأنثوية كما لو كانت حماية أمومية والشعور بالأمان الذي يفتقده، وإطلاقه عليهن جميعا اسم عائشة والتفريق بينهن بالأرقام تيمنا بابنته، فهي الابنة الوحيدة له والتي تضطلع بدور الوسيط في حل الخلافات العائلية، وتعمل في مجال المنظمات غير الحكومية، أي انها هي الأنثى الوحيدة في حياته التي يشعر معها بالأمان والاستقرار، خصوصا أن زوجته الأولى قد انفصل عنها عندما أصبح قائدا للثورة الليبية واعتبرها لا تليق به في هذه المرحلة، وزوجته الثانية التي تتسم تحركاتها بالتكتم، وليس لها وجود يذكر على الساحة الليبية.
التوحد مع الذات وجنون العظمة
القذافي نتاج مرحلة تاريخية مرت على العالم العربي تحت ظلال مشروع القومية العربية، أو المشروع الناصري الذي مثل النموذج في عقليته، ولم يتمكن من تجاوزها رغم انهيار الفكرة ذاتها بعد وفاة جمال عبدالناصر، فظل موحدا بشكل نفسي مع تلك الفترة التاريخية. يتضح ذلك في تعريف نفسه بأنه قائد الثورة وليس رئيسا بل هو زعيم، هو من يسن القوانين ويضع الدستور من خلال كتابه الأخضر الذي اعتمد عليه في إدارة البلاد، ولا يغفل أيضا تنصيب نفسه عميد الحكام العرب، وكذلك ملك ملوك افريقيا وإمام المسلمين، فهو يحاول فرض الزعامة والبحث عنها في كافة الجوانب السياسية والدينية، كي يصنع لنفسه كاريزما خاصة. يظهر ذلك على سيبل المثال في أسماء أولاده، «سيف الإسلام، وسيف العرب» تأكيدا على رغبته في زعامة العالم العربي والعالم الإسلامي.
وفي خطابه الأخير الذي حرض فيه الآباء على أبنائهم من شباب الثورة الليبية، يعطي انطباعين غاية في الخطورة، الأول أنه مازال يعاني من التوحد النفسي مع الجيل المعاصر لثورته القديمة، وعدم وعيه بالمتغيرات النفسية التي طرأت على الجيل الليبي الجديد. والثاني اعتقاده الضلالي الذي يقارب اليقين أن ثورة الشباب لم يشارك فيها أحد من معاصريه أو جيله القديم، مما يؤكد على انعزاله النفسي وتوحده مع ذاته، وعدم قدرته على الفهم أو التواصل مع شعبه الذي حكمهم طوال أربعة عقود متوالية.
فرغم أن الجيل الحديث من الشباب قد عانوا من التسلط الأبوي لأسرهم التي كانت تجرم مجرد ذكر اسم القذافي بسوء حتى داخل البيوت أو في الجلسات الخاصة، والتي تعكس مدى تسلط القذافي النفسي على الجيل القديم، إلا أن الشباب تمكنوا من هدم ما يمكن تسميته بالتابو (المحرم) السياسي، في مرحلة نضوج ووعي شعبي لم يتمكن القذافي من إدراكه، نتيجة لتكوينه النفسي المعقد المنسحب على ذاته دائما.
نهاية متوقعة للقذافي
بناء على التحليل النفسي لشخصية معمر القذافي، فإنه لن يقبل بأي مساحة للتفاوض أو الانسحاب من الساحة السياسية نزولا على رغبات الجموع الشعبية، فرغم ما يعانيه الآن سياسيا من انهيار وشبه انحصار لسلطته، لكنه يرفض أن يظهر ضعيفا أو مهزوما، اعتمادا على أبنائه الذين يعدون امتدادا طبيعيا له. ولكن في حال فقد السيطرة الكاملة أو انهزامه أمام الثورة، فإنه سيلجأ إلى نهاية استعراضية تليق بشخصيته التي تعشق حب الظهور، فقد يلجأ إلى الانتحار أمام الجماهير حتى يخلد مشهد النهاية كما حاول تخليد كل لحظات حياته، سيكون ذلك بعد أن يتسبب في مزيد من حمامات الدم.
فأزمة القذافي النفسية أنه غير مدرك من الأساس جملة الخسائر التي تسبب فيها لشعبه، فالقضية تحولت من مجرد رغبة الجماهير في تغيير النظام أو إسقاطه إلى حالة انتقامية تشمل القذافي وأسرته، مما يجعل حل التفاوض غير ممكن في هذه المرحلة، فالقذافي لن يهرب أو يختفي، فهو يرفض أن يعيش منعزلا أو يرى ذاته مهزوما وضعيفا، فهو إما أن يقتل نفسه أو يقتل حتى ينال مجد الشهادة مثل أجداده استكمالا لجملة الضلالات والاضطرابات النفسية التي تتحكم في بنائه النفسي، فالانهيار الكامل أو الاستسلام ليست من سمات الشخصية التي تعاني من أوهام العظمة أو الزعامة.