آلاف السنـــين قضــــاها السوريون في تطوير وإبداع أجمل المشغولات الذهبية وضعت «الصاغاتية» السوريين بين أمهر محترفي هذه المهنة عالميا، باتت في مهب ريح «أزمة الذهب» التي تعاني منها سوق المعدن الأصفر. ورغم أن كثيرا من المسؤولين صرحوا بأن سورية كانت في منأى عن التأثيرات المباشرة للأزمة المالية العالمية، إلا أن التأثيرات غير المباشرة كان لها اكبر الأثر على سوق الذهب السوري بعد أن اصبح هذا المعدن ملاذا لأصحاب رؤوس الأموال الخائفين على أموالهم، فالتداول أصبح شبه معدوم بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني الذي يتوقع ان يستمر وصولا الى 2000 ليرة بحسب توقعات أصحاب الشأن، إضافة الى عوامل عدة أوردها تقرير لموقع «سيريا نيوز الالكتروني» حول أزمة الذهب.
ولم تشفع عراقة المهنة في سورية «رافي» بالاستمرار في مهنته التي كانت جزءا لم يتجزأ منه، حتى جزأته «البقالية» التي وجد بها نفسه بعد اتخاذه قرارا بإغلاق ورشة الصاغة الخاصة به واتجاهه لمهنة من نوع آخر، «أكثر ربحا، وأقل خطورة» بحسب تعبيره.
لم تكن ورشة «رافي» أولى الورشات التي أغلقت وربما «لن تكون الأخيرة»، وبحسب رئيس جمعية الصاغة والمجوهرات في دمشق، فالوضع «أصبح لا يطاق والمهنة تحولت إلى عبء على بعض أصحاب هذه الورشات، خاصة مع غياب إجراءات حقيقية للمحافظة على تراث امتد لثلاثة آلاف عام».
أسباب هجر المهنة
الجنون الذي يشهده سعر الذهب كان سببا رئيسيا لإغلاق «رافي» ورشته، ولكنه ليس الوحيد، وما هو إلا مكمل لعدة أسباب ساهمت في تجميد هذه المهنة، وتهديد وجودها، بحسب «سيريا نيوز».
يقول رافي كاردوكيان: «أدى غلاء الذهب إلى اقتطاع نسبة كبيرة من أجرة اليد العاملة وذلك لتعويض الخياسة (الغرامات التي تهدر أثناء مراحل التصنيع من صهر وإعداد وتلميع)، ولكن هناك بعض الممارسات من بعض أصحاب محلات الذهب أنفسهم ساهمت في وصول المهنة إلى ما هي عليه، من ناحية الجمود الذي يشهده السوق».
هذه الممارسات اتفق عليها الكثير من «الصاغاتية» في دمشق وحلب، «فالتطفل الذي تشهده المهنة أضر بها كثيرا» وذلك من خلال عدم خبرة البعض في البيع والشراء، وبرأيهم هم «حديثو العهد في المهنة، ودخولهم لها غرضه غسيل الأموال ليس إلا»، ما أدى إلى سكب الزيت على النار ودق مسمار إضافي في نعش سوق الذهب في سورية.
من أسباب انتشار ظاهرة هجرة «الصاغاتية» عن عالم الذهب برأي رافي كاردوكيان أن «العديد من أبناء المهنة أصابهم الطمع بعد وصول الأسعار إلى ما هي عليه الآن، ما دفعهم لبيع كل ما يملكون من ذهب بسعر عال جدا والانتقال إلى أفكار جديدة في عالم المال والأعمال، فمنهم من كان يملك 20 كيلو ذهبا، وهي كمية كبيرة جدا وتأتي بسعر مغر للغاية، وكفيلة بفتح مشروع يدر أرباحا هائلة دون التعرض لخطورة العمل في مجال الذهب الذي أصبح غير مؤتمن».
للوهلة الأولى قد نعتقد أن جملة رافي «البقالية أكثر ربحا، وأقل خطورة» تتضمن نوعا من المبالغة، لكنه يملك ما يقوله في هذا الصدد حيث يرى أن «العمل في «البقالية»، يأتي بأرباح أكثر من مجال الذهب في الوقت الحالي، لأن التداول أصبح شبه معدوم في هذا المجال وعملية البيع والشراء متوقفة تقريبا، ما يجعل كميات الذهب التي نمتلكها، نوعا من الثروة الافتراضية، بعكس «البقالية» التي أستطيع من خلال عملي بها أن أعلم نسب البيع والربح والخسارة».
من جهته يصف دانيال (أحد صاغة دمشق) نفسه بأنه «أحد الصاغاتية المخلصين للمهنة» ويأتي إطلاق هذه الصفة من أنه أحد المعانين في هذا المجال رافضا التخلي عنها، والذهاب بعيدا طمعا في المال أو الربح السهل.
ويشرح دانيال معاناة الصاغاتية بقوله «لا تكفينا أزمة الذهب العالمية، لتضاف إليها إجراءات الجهات المعنية في مجال الذهب، حيث نعتمد حتى الآن على قوالب قديمة وذلك بسبب عدم الانفتاح في سورية، فيمنع العمل في ذهب غير وطني، حاجبين أنفسنا عن الموديلات الغربية أو غير السورية».
ويرى أن «مهنة صياغة الذهب لا تعامل كغيرها من المهن رغم أهميتها وحساسيتها، فنتمنى أن تعتبر مثل صناعة الألبسة مثلا وغيرها من المهن، وأن تكون منفتحة على البضائع الأخرى، وذلك لنوفر خيارات واسعة أمام الزبون، لا يعقل أننا نقوم على ستة أو سبعة موديلات منذ السبعينيات حتى الآن».
وعن إيجاد بديل آمن من حيث السعر لدى الزبون قال دانيال «كانت تنتشر ظاهرة إهداء القطع الذهبية سابقا بين الأشخاص، ليستبدلوا هذه الظاهرة بأمور أخرى كدفع مبلغ نقدي في الأعراس بدلا من قطعة ذهب اعتادوا أن يهدوها، كما حل الذهب الروسي بعض مشاكل النساء، بسبب رخص ثمنه وصعوبة الحصول على الذهب الأصلي».
بدوره توقع رئيس جمعية الصاغة جورج صارجي بأن «تستمر أسعار الذهب في الارتفاع حتى تصل إلى مستوى 2000 ليرة للغرام الواحد مع نهاية العام الحالي، مستندا في توقعاته إلى أسباب تتعلق بلجوء الكثير من المستثمرين إلى الذهب كملاذ آمن بعد الخسائر الكبيرة التي شهدها عدد من المجالات الاقتصادية خاصة العقارات، إضافة إلى أسباب مرتبطة بأزمة الديون في اليونان وموافقة الصين على تصنيع وتصدير الذهب، وسماح الهند بتداوله بعد أن كان يعتبر مقدسا.
من 130 كيلو يومياً إلى 2 كيلو
وعن حركة البيع والشراء، أشار صارجي إلى أن «الحركة لاتزال ضعيفة جدا وتعاني من ركود شديد رغم أن فترة الصيف عادة ما تشهد إقبالا جيدا إلا أن العام يعتبر الأضعف في حركة التداول».
تداول الذهب اليومي بسورية تأثر بشكل كبير جراء الأزمة التي يمر بها هذا المجال ويقول صارجي «خلال 4 سنوات طرأ تراجع كبير جدا في حجم تداولات الذهب، فبعد أن كان التداول يقارب 130 كيلوغراما يوميا أصبح اليوم لا يتجاوز 2 كيلوغرام».
وأكد رئيس جمعية الصاغة أن «ارتفاع أسعار الذهب أدى إلى انخفاض حركة البيع والشراء في سورية بنسبة 90%، وساهم في انخفاض عدد الورش العاملة في تصنيعه في سورية، حيث تراجع عددها من 600 إلى 70 ورشة فقط»، يبقى التساؤل عن مصير هذه المهنة التي اشتهرت بها سورية عبر السنين بعد الهجرة الجماعية لأبنائها، وعن الحلول التي ستحافظ عليها قبل ذهابها أسوة بغيرها من المهن.