لم تستطع العاصفة الثلجية ان تحول دون هبوط طائرة الرئيس بشار الأسد في موعدها المحدد في باريس لعقد القمة المنتظرة مع الرئيس نيكولا ساركوزي في التاسع من ديسمبر الجاري. كان الوقت ظهرا حين كنا نلتف حول بعضنا من شدة البرد، في ساحة قصر الاليزيه. وكان عديدنا يزيد على المائة صحافي وصحافية نمثل كل وسائل الإعلام في أربع جهات الأرض ننتظر ونحن نصطفق من البرد القارس ونتلهف لسماع ما سيقوله الرئيس الأسد حيال مختلف القضايا الساخنة في شرق المتوسط والإقليم وأنظارنا متجهة الى بوابة الاليزيه عسى أن تدلف سيارة ضيف فرنسا الكبير والمهم.
مرت دقائق معدودة على ظهور الرئيس الفرنسي ساركوزي على بوابة الاليزيه ليستقبل ضيفه القادم من دمشق، يحيط به كبار مستشاريه ومعاونيه. لكن المفاجأة التي أذهلت جميع من كان حاضرا هي ولوج الرئيس الأسد بوابة الاليزيه ماشيا على قدميه على غير عادة ضيوف فرنسا الكبار الذين يحضرون الى القصر الرئاسي بسيارة مراسم الرئاسة.
علمنا انه قرر ان يقطع المسافة ما بين قصر البريستول مكان استضافته والاليزيه مشيا كأي مواطن يحب أن يستنشق هواء تلك المدينة الساحرة، في ذلك اليوم البارد جدا، ويتمتع بحرية تقاسم أرصفة المشاة مع المارة في كل اتجاه. علما أنهم أدركوا ان من يسير ليس شخصا عاديا بدأوا يتهامسون ترى من يكون ويصرخ احدهم آه انه البريزدنت الأسد، وقفوا باحترام، وترجل الكثيرون من سياراتهم لتحية الزائر الكبير.
التفت أحد الصحافيين الفرنسيين بالقرب مني وهمس مذهولا: لا أكاد أصدق عيني. هذه أول مرة في حياتي أرى فيها رئيس دولة يلج بوابة قصر الاليزيه مشيا على الأقدام ومن دون حراسة. ثم التفت ناحيتنا قائلا، لمعرفته بأنني صحافية من الوفد السوري المرافق: «من الواضح أن رئيسكم ليس لديه ما يخشاه في باريس. وخلافا لكل زعماء العالم الذين زاروا هذه العاصمة، فهو قادر على السير في شوارعها دون تردد، وبعيدا عن الترتيبات الأمنية المشددة، التي توفرها الدولة الفرنسية لكبار ضيوفها». قلت للزميل الفرنسي كذلك هو في أي مكان يذهب اليه ليس لديه ما يخيفه فيه، أما في وطننا سورية فإنه غالبا ما يقود سيارته بنفسه، ومن دون حراسة شخصية أو مرافقة، يدخل محلا لبيع الحلوى، ليشتري لأسرته ما يرغبونه من الحلوى الشامية، وتكاد تمضي بضع ثوان حتى ينتبه صاحب المحل أن الشخص الذي يكلمه، ويطلب منه صنفا من الحلوى، هو رئيس الجمهورية. وليقع في حالة ذهول واندهاش كحالتك الآن. أومأ الزميل الفرنسي برأسه قائلا: أصدقك القول، بعد الذي رأيته منذ قليل بأم عيني.
يحب الفرنسيون بحكم نزعتهم المتمردة دائما على الواقع، كل ما هو غير اعتيادي. ولا يخفون إعجابهم بالرجل الذي يمتلك القدرة على قول الحقيقة بصدق وجرأة، حتى لو كانت مخالفة لقناعاتهم. تشعر وأنت تحاورهم في مسائل تعتقد أنها من البديهيات، أنك أمام ديكارت، وفولتير، ومونتسكيو، وروسو، مجتمعين في شخص واحد. يعشقون الجدل ومحاكمة الحقائق، لكنهم في الوقت نفسه، يتقبلون رأيك مهما كان مخالفا، بكل رحابة صدر. تلك هي تحديدا الديبلوماسية الفرنسية المتعلقة بالشرق الأوسط، خصوصا منذ تولى ناصيتها الرئيس نيكولا ساركوزي، بعد أربع سنوات عجاف من رهن سلفه إرادة فرنسا لرغبات الهيمنة الأميركية. عندما سأل أحد الزملاء الفرنسيين من القناة الأولى للتلفزيون الفرنسي tf1 الرئيس بشار الأسد عن رأيه في عجز الإدارة الأميركية عن وقف الاستيطان بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصا في القدس المحتلة، تمهيدا لعقد المفاوضات مع الفلسطينيين. أجابه السيد الرئيس بلسان أي عربي حر قائلا، وأين؟ في العاصمة الفرنسية: «إن ما تفعله إسرائيل يشبه تماما اللص الذي يذهب إلى سوق الحرامية، ليبيع للناس ما سرقه منهم».
نظرت إلى الزميل الفرنسي الذي اقترب مني قائلا: مفاجأتان مدهشتان في يوم واحد..هذا كثير علي.
هدى العبود