دمشق ـ هدى العبود
«هذه الفتاة شاعرة».. هذا ما قاله الشاعر والأديب السوري الراحل محمد الماغوط عندما قرأ التجربة الشعرية الأولى للشاعرة السورية وفاء دلة التي أصدرت مؤخرا ديوانها الجديد «رذاذ الجمر» الذي احتوى مجموعة من القصائد تتداخل فيها ارتجاعات الزمن المؤلم وتمتد أسافين الوجع عميقا في الروح فتنثر كلمات كزهر بري يتهادى مع نسمات صبح يتكاسل، ودفء أنين يعبر بين الألفاظ ليخطها جراحات جميلة توشم على الذاكرة، وتنغرز بعيدا في الأعماق في مسكن البدايات الأولى، وموطن الولادات الجديدة، وتأتي الينابيع المتفجرة ثورة عارمة تهز الكيان فينتفض ليعبر، ليصرخ دويا محموما يدمي الفؤاد لكنه يزرع الأمل والحلم.
فالهاجس الشعري الكامن في الدواخل يخشى الانفلات، إنه انحباس الهطول في انتظار الوفرة وهو كمون الزهر شوقا للربيع، وهو أيضا تكون جنين القول في رحم الإبداع.
تمتد الصورة الشعرية عند وفاء دلة في تراتبية لا تراعي إلا قيم الجمال ولا تهتم إلا بما يعني العين فرحة الرؤية وما يشرح الفؤاد بوهج الضوء تلألأ على ايقونة من نثر متراص يقول فيوصي ويصمت فيكون أبلغ.
كم صليت
واستدعيت أزمنة البراءة
وانتظرت على طريق الأمنيات
صغيرة
لم أدر أن أمومتي
قد أوقدت
قنديل عاطفتي
تعود الشاعرة التي هامت بعيدا في المعنى والمغزى والسؤال والعاطفة والحيرة والألم الجماعي وروح الإنسان، إلى الأنوثة، إلى الهم النسوي، إلى العاطفة الجياشة التي تسكن عمق كل امرأة مهما تسامت عن العذابات، فتنفعل وتصرخ وتتألم وتنزف عذاب القلب والهجر والفقد ولوعة الأنثى الباحثة عن الأمان.
فالطيور التي حملت دمعة
من نواظر بغداد
قد رسمت
فوق خد دمشق الأسى
والنخيل الذي قد تيبس فيه الرطب
صار يبكي له
في حقول دمشق العنب
هنا تنبلج فجوة في الروح، هم أمة أثخنتها الجراح، والشاعرة ترتمي في هذا الأتون الملتهب الذي هز المنطقة، وهز القناعات، وهز الروح من أعماقها فجاءت هذه القصيدة بعيدة عن التهويمات الفارغة، والشعارات البراقة، والأكاذيب الجوفاء بل هي قصيدة ذات موضوع ومشبعة بأنين الوجع ومعبرة عن موقف إنساني يسمو إلى درجة التماهي الكامل مع المصاب، وحمل هموم كأخ وكذات وكإنسان.
وفاء دلة شاعرة التسعينيات لم تعتمد في قصائدها تهويمات ذاك الجيل ولا هي حاولت التفلسف في القصيدة، ورمي الألفاظ ورصفها كي يقال شاعرة، كما يفعل أبناء ذك الجيل بل على العكس من ذلك، قالت القصيدة من عمق الروح ونطقتها بقريحة لا تخلو من إبداع يعانق الروعة في أحايين كثيرة.
وفاء دلة تقول متأملة في حنايا بيتها الصغير في أحد ضواحي دمشق حيث زارته «الأنباء»، تقول إن الشاعر يخلق شاعرا فإما أن تنمو بذرة الشاعر وتتألق وإما أن تموت.. فالشاعر من وجهة نظرها لا يمكن صنعه ويمكن تشبيهه بمولود يولد إما جميلا وإما لا.. عندما خلقت أعتقد أنني كنت أحمل شاعرة، ولكن البذرة الأولى تمت تنميتها من خلال استاذ اللغة العربية في الصف الأول الثانوي، حيث عاقبنا الاستاذ لمدة 15 دقيقة، بحيث نكتب خاطرة أو موضوعا أو فكرة.. وبعد انتهاء الدقائق الخمس الأولى طلب مني قراءتها ولكنني رفضت خجلا، فقرأها بدون صوت، وقال زميلتكم شاعرة، وبقيت هذه البذرة تنتج، وكانت تلك أول قطرة ماء، دون أن أنسى أن والدتي وهي شاعرة زجلية قد شجعتني عندما علمت بما قال الاستاذ.
درست الحقوق في بيروت ووصلت إلى السنة الرابعة ولكن أحداث لبنان اضطرتها لترك الجامعة.. عادت ودرست علم النفس لمدة عامين لينتهي المطاف في الإعلام.
رغم تراجع الحالة الشعرية في سورية كما تقول الشاعرة وفاء دلة، إلا أنها أفضل من غيرها من الدول العربية. ففي سورية على حد قولها يوجد تيار شعري مهم، لكن وجود هذا التيار لا يعني أن دور الشاعر موجود على الأرض فتقول دور الشاعر مفقود لأن هناك اهمالا من قبل المؤسسات المعنية لاسيما في سورية علما أن الشاعر أكبر من أي شيء، بل أكبر من أي سلطة.
ولكن إلى أي مدى يلتزم الشعراء هذه الايام بقضايا الأمة الكبرى؟ هذا الالتزام موجود ولكن نادر، هكذا ترى وفاء دلة، يندر أن ترى شاعرا يحمل قضايا الأمة.
ماذا عنك؟
كتبت قصيدة لبغداد وحازت على جائزة التفعيلة في مسابقة الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد.
حتى في ديواني الأول «امرأة إلا قليلا» طرحت قضايا وطنية مثل الشهيد وأشرت فيه للمقاومة اللبنانية، كما أنني كتبت لفلسطين وعن الوطن بشكل عام تحت مسمى «مسكين يا وطني»
ديوانك الأول «امرأة الا قليلا» هل هو هجوم على الرجل؟
لا، تقول دله، بل هو التصاق بالرجل.
هل كان بعيدا؟
نعم عاطفيا.. كان بعيدا..الرجل ناقص الشعور.. لا يشعر بالصمت.. فلغة الصمت مهمة جدا وهذه يبدو أن الرجل لا يحس بها وقد يكون بحاجة لصرخة ما، وعندما كتبت امرأة إلا قليلا كنت في مرحلة عشق.
متى تعشق المرأة الشاعرة؟
العشق حالة جنونية مثل حالة كتابة النص.
هل أنت بحالة عشق حالي؟
يجب أن تكون عاشقا حتى تستطيع كتابة الشعر وإلا فلن تكون شاعرا.
ألا توجد محفزات أخرى غير العشق؟
العشق ليس بالضرورة أن يكون للرجل.
الجوع ألا ينتج شعراء؟
صحيح لكن ليست هناك آذان مصغية.. الاهتمام الآن بالعري وليس بالكلمة وليس بالإنسان وما في خوارجه من عري وعار، اتحاد الكتاب العرب في سورية يرفض كل مبدع حقيقي وكل أفكار جديدة ويريد أن يحافظ على التقاليد وكأنه يمشي في الصحراء على الجمل في عصر الطيران فوق أجنحة الغمام.
أنا لا أملك سلطة سياسية وعسكرية، حتى أدخل اتحاد الكتاب بل أملك قلم جميلا مبدعا وفكرا نيرا، وقلبا كبيرا محبا للعصفور وللوطن وللسماء للأرض وللشجر محب للعشق.
اكتب للطفولة مجموعة شعرية الشمس وقطرة عسل وهناك 4 مجموعات زينة الدنيا، وهو الوحيد الذي طبع في سورية.
وأحلى ما في الوجود قصص للأطفال. كما أن هناك ملائكة وأملاك جاهزة للطبع. ترى الشاعرة وفاء دلة أن مدرسة نزار قباني هي مدرسة شعرية، وهناك أيضا مدارس صوفية نبعت من سورية يمثلها كوكبة من الشعراء من بينهم محمد الماغوط الذي كان متصوفا ومن ثم انحرف بأفكاره، أما محمود درويش فيمتلك مدرسة منفردة، أحب تجربة أبي القاسم الشابي في تونس وهو صاحب تجربة فريدة في الشعر.. قال ما لم يقله أحد غيره.