تأخرت تركيا بإعلان عزمها الاشتراك في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش لكن موقفها مازال ملتبسا ومازالت تركيا تقف في منطقة رمادية وتمسك العصا من وسطها وتسعى الى فرض أجندتها الخاصة. وهذا ما يفسر الغموض الذي أحاط نتائج الاتصالات الأميركية المكثفة مع أنقرة التي زارها وزيرا الخارجية والدفاع وعادا منها بخفي حنين وبالتزام تركي مبهم هو دعم الحلف الدولي لمحاربة «داعش» على أن يتحدد لاحقا شكل هذا الدعم وحجمه.
تسوق تركيا موقفها المتحفظ وتقدم التبريرات والحجج التالية:
- الخشية من أن تكون الحكومة السورية المستفيد الأكبر من هذه الحرب وأن تؤدي الى تقويتها عبر ملء الفراغات التي ستتركها الحرب على «داعش». كما أن النظرة التركية الى الحرب على الإرهاب لا تتم من زاوية «داعش» فقط وإنما أيضا من زاوية حزب العمال الكردستاني.
- الخشية من وصول السلاح الى يد حزب العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديموقراطي السوري، والخشية بالتالي من قيام كيان كردي في سورية يشكل خطرا أكبر من خطر كردستان العراق على تركيا التي تخشى أن يؤدي الوضع الجديد الى نسف عملية السلام الجارية مع الأكراد، خصوصا أن هذه الحرب وضعت العلاقة بين تركيا وإقليم كردستان في مهب الريح والاختبار الاستراتيجي.
فالإقليم الكردي ينظر بعين الشك والريبة الى الموقف التركي الذي تقاعس عن نجدته.
وباختصار، فإن نقطة الارتكاز في التفكير التركي في المرحلة الراهنة تتلخص في أن العدو الرئيسي لتركيا هو الحكومة في دمشق وحزب العمال الكردستاني، ولا يريد رجب طيب أردوغان إعطاء شرعية لهذا الحزب الذي يحارب الى جانب قوات «البشمركة»، كما أنه لا يريد تعزيز موقع إقليم كردستان العراق ومده بالسلاح بعدما كان رفض سابقا، وفي ذروة تهديد «داعش» لأربيل، مد الأكراد بالسلاح.
ولكن السبب الأهم والمباشر هو أن أي إضعاف لـ «داعش» سوف يصب في مصلحة النظام السوري الذي لا يزال إسقاطه يتقدم على أي أولوية أخرى لتركيا في المنطقة.
هذه هي الخلفية التي تحرك تركيا وموقفها من التحالف وحربه على «داعش»، وما تحاوله الآن هو أن يكون انخراطها في هذه الحرب بشروطها وعلى طريقتها وبما يخدم مصالحها، لأن الحاجة الدولية إليها في هذه الحرب تتيح لها إملاء الشروط ووفق التحليل والتصور التالي:
- الأميركيون يطالبون رئيسهم بحسم سريع للحرب، وهذا الحسم لا يكون إلا من خلال تدخل فاعل ومباشر وليس من خلال ضربات من بعيد لا تؤدي إلا الى إفادة النظام وإضعاف المعارضة.
- الحرب البرية على الأرض للتحالف غير ممكنة وغير ناجحة من دون تركيا التي لديها جيش قوي وكبير، وهي الأقرب جغرافيا الى سورية والعراق.
- تركيا لديها شروط للتدخل، هي أيضا شروط تحقيق الانتصار على الإرهاب، وهي: إقامة منطقة عازلة (مع حظر الطيران فوقها) على الحدود مع سورية لاستضافة اللاجئين وحمايتهم، وتدريب المعارضة السورية المعتدلة وتسليحها، ودفع النظام الى القبول بالحل الانتقالي وفق اتفاقية «جنيف-1».
فما تريده أنقرة هو تحديد الأفق السياسي للحرب ضد «داعش» في سورية ومعرفة ما إذا كان ما جرى في العراق من إزاحة المالكي ينطبق على سورية في إزاحة الأسد، أو على الأقل في قيام حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة. اقامة المنطقة العازلة الحدودية داخل الأراضي السورية هو الهدف المركزي لتركيا حاليا.
ولكن هذا المشروع المرفوض من سورية والأكراد، ليس مطروحا على الأجندة الأميركية وليس جزءا من خطة عمل التحالف، كما يقول رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمبسي.
وإذا لم تنجح تركيا في إقناع الولايات المتحدة بـ «المنطقة العازلة» لا يبقى أمامها إلا إنشاء هذه المنطقة على طريقتها وبقواتها البرية وتحت إشراف سلاحها الجوي.
خطط التدخل أو الغزو التركي في شمال سورية باتت جاهزة لإقامة النطقة العازلة ونقل اللاجئين السوريين إليها وإضعاف خطر تنامي قوة حزب العمال الكردستاني.
وهذه الخطة التي تتم بمعزل عن التحالف الدولي تعلن تدخل وتورط تركيا في النزاع السوري لأول مرة بشكل مباشر ورسمي منذ تفجر هذا الصراع قبل أكثر من ثلاث سنوات.
ولكن الدخول الى الحرب إذا كان سهلا ومتاحا تحت غطاء التحالف والحرب ضد «داعش»، فإن الخروج لن يكون سهلا من الحرب التي يعرف الجميع كيف بدأت ولا أحد يعرف كيف ستنتهي ومتى وبأي أثمان وتسويات؟.