تبدو الاستراتيجية الأميركية في العراق محددة في خطوطها وتفاصيلها: فبعد التخلي عن نوري المالكي واستبداله بحيدر العبادي وحكومة جديدة أكثر توازنا، يتحرك العبادي باتجاه المصالحة مع العشائر السنية لإدماجها في العملية السياسية وفي الحرب على «داعش». في موازاة ذلك، يتم دعم البيشمركة وحل المشاكل العالقة بين أربيل وبغداد مع بقاء الإقليم الكردي تحت سقف العراق الفيدرالي. اما في سورية، فالاستراتيجية الأميركية غير واضحة وغير مكتملة. فإذا كان الهدف العسكري في العراق هو القضاء على «داعش» فإن الهدف في سورية لم يبلغ هذا المستوى
ومازال يدور في إطار «التحجيم والاحتواء» والاستخدام الى حين تبلور معالم الحل السياسي. وإذا كان البت بمصير نوري المالكي وإزاحته من المشهد العراقي شكل المدخل المناسب الى الحرب وجاء في بداياتها، فإن البت بمصير بشار الأسد ومستقبله يطرح عندما يحين أوان الخروج من الحرب وفي نهاياتها، فالحرب التحالفية الجوية لها وظيفة سياسية هي انضاج ظروف الحل وإحداث تغيير في المعادلة وميزان القوى والمعطى الاستراتيجي، وإدخال الأزمة في خطين ومسارين متوازيين: المسار العسكري المتواصل حروبا متعددة ومتشابكة من الجو وعلى الأرض، والمسار السياسي المستأنف جهودا واتصالات وسط اعتقاد متزايد أن إمكانيات وظروف الحل السياسي يمكن أن تبعث من جديد، وأن بارقة حل سياسي تلوح في الأفق السوري الضبابي والملبد و«البعيد» نسبيا لمسافة أشهر.
وأما الأسباب والعوامل التي تدفع الى تعويم فكرة الحل السياسي واستئناف عملية جنيف من حيث توقفت فهي:
1 ـ حالة الحذر وعدم اليقين لدى الولايات المتحدة في الحرب والتحالف اللذين تقودهما ضد «داعش» في العراق وسورية، ففي العراق هناك عقدة الأنبار والوتيرة البطيئة في استيعاب وتسليح العشائر، وفي سورية حيث الوضع أكثر تعقيدا وصعوبة، هناك تشرذم المعارضة السورية وعدم جاهزيتها الحربية وعدم فاعليتها السياسية، وهو ما جعل أن هناك حذرا أميركيا في استراتيجية تسليح المعارضة السورية التي تسير ببطء شديد وتحتاج الى وقت طويل يمتد لأشهر، وهناك خصوصا التشنج والتوتر في العلاقة الأميركية ـ التركية بعدما انكشف الخلاف على حقيقته في معركة كوباني، وحيث قرر أوباما تزويد الأكراد أسلحة رغم معارضة أنقرة، وقرر أردوغان عدم الانخراط في التحالف والخطة الأميركية إلا بشروطه.
2 ـ رغبة روسيا في إنعاش عملية «جنيف 1» واستئنافها من حيث توقفت عندما حصل تفاهم مع واشنطن على أولوية الحرب على الإرهاب، ولم يحصل تفاهم على دور ومصير الأسد، وما تريده موسكو هو استعادة المبادرة في الملف السوري ومن الباب السياسي بعدما استبعدت أو أبعدت نفسها عن التحالف الدولي والحرب على الإرهاب بقيادة «أميركية». وما تعتقده موسكو أن لحظة العودة الى طاولة المفاوضات والحوار بين النظام والمعارضة لم تحن بعد، ولكنها تعتقد أيضا أن الحل السياسي إذا وضع على السكة مجددا فلن يكون خارج إطار «جنيف 1»، أي حكومة انتقالية توزع مناصفة بين النظام والمعارضة، ومرحلة انتقالية مع وجود الرئيس بشار الأسد تبدأ بدستور جديد وتنتهي الى انتخابات نيابية ورئاسية.
3 ـ التغيير المرتقب من جهة إيران الذي بدأت طلائعه وملامحه تظهر تباعا، وأبرز ما فيه:
٭ تغيير في طبيعة وأجواء العلاقة مع الولايات المتحدة في حال تم التوصل الى اتفاق نووي الشهر المقبل، وهو ما يفتح الطريق أمام تفاهمات حول ملفات وقضايا إقليمية.
٭ تغيير في تقييم إيران وحساباتها في الملف السوري: ذلك انه لا تغيير في السياسة الإيرانية لجهة مركزية تحالفها مع سورية واستمرارية النظام السوري. وإيران مثل روسيا غير راغبة في الشراكة في التحالف ضد «داعش» ومرتاحة لهذه الحرب التي ترفع الضغوط عنها مرحليا، ولكن إيران بالمقابل مدركة أن سورية ما بعد الحرب على «داعش» ليست سورية ما قبل هذه الحرب، وباتت مقتنعة بأن التعقيدات الدولية والإقليمية كرست عدم إمكانية الانتصار عند نظام الأسد.
ويبقى أن تقتنـع الولايات المتحـدة وحلـفاؤها بعدم إمكانية سقوط أو إسقاط الأسد عسكريا، ومن ضمن هذه المعادلة «الأسد لا يتقدم ولا يسقط» يصبح الحل السياسي ممكـنا، وهـذا الحـل سيكون في نهاية المطاف وفق النموذج العراقي: حكومـة تمثيليـة توافقيـة تضمن مشاركة كل المكـونات الطائفيـة والعرقيـة، الوجهـة الأخـيرة للقطار السوري محددة والهدف النهائي كذلك، وتبقى المشكلة في التفاصيل والمسار المتعرج والمعقد والطويل.