استحوذ السقوط المفاجئ والكامل لمدينة تدمر السورية على اهتمام المراقبين والمتابعين لمجريات الحرب الدائرة في سورية، وذلك للأسباب التالية:
٭ أولا: سقوط تدمر في سورية يأتي بعد أيام على سقوط الرمادي في العراق. وهذا يعزز الاعتقاد بأن الاستراتيجية المعتمدة في محاربة «داعش» ليست فعالة وناجحة، وأن جهود وغارات سنة من حرب التحالف الدولي ضد هذا التنظيم ذهبت سدى، إضافة الى تساؤلات مشروعة بدأت تطرح لجهة أن سقوط تدمر الذي تطلب عبور مئات المقاتلين وعشرات الآليات في البادية السورية ولمسافة 70 كيلومترا على مرأى من طائرات التحالف ومن دون أن تفعل شيئا.
سيطرة «داعش» على الرمادي وتدمر في وقت متزامن أشارت بما لا يدع مجالا للشك الى أن استراتيجية التنظيم لم تتغير، وأنها تقوم على «كسر الحدود» والتمدد قدر ما يستطيع، كما تشير الى أنه ليس من ضمن استراتيجيته بأي شكل من الأشكال فكرة الانكفاء داخل بلد واحد، وهو ما يقطع الطريق أمام كل المراهنين على أنه يمكن إجبار «داعش» على الانسحاب من العراق والتمركز في سورية تمهيدا للقضاء عليه هناك.
٭ ثانيا: سقوط تدمر جاء بعد أسابيع معدودة على سقوط إدلب وجسر الشغور في شمال سورية، ما يشير الى حصول تدهور في وضع الجيش السوري وفي ارتفاع حجم الضغوط عليه في الآونة الأخيرة، والذي بدا من امتدادات ونتائج «عاصفة الحزم» في اليمن وارتفاع وتيرة التدخل والتنسيق بين دول التحالف الجديد على الأرض السورية بهدف الدفع نحو تحقيق انتصارات وتعديل ميزان القوى وحمل النظام على التنازل وتعزيز الأوراق التفاوضية في أي تسوية مستقبلية.
٭ ثالثا: معركة تدمر جاءت مباشرة بعد معركة القلمون، وحيث لا يمكن الفصل بين المعركتين في إطار الحرب العسكرية والمعنوية المفتوحة. ان جزءا مما حدث في تدمر كان هدفه لفت الأنظار بعد معركة الجيش السوري وحزب الله في جبال القلمون، وإشغال الجيش السوري وفتح معركة في القلمون الشرقي ومنه الى البادية.
٭ رابعا: النتائج والتداعيات السياسيــــة والعسكريــــــة والاستراتيجية المترتبة على هذا التطور ويمكن اختصارها في النقاط التالية:
1 ـ تبدل في معالم الجغرافيا السورية وخارطة النفوذ على الأرض.
مع سيطرة «داعش» على تدمر، تكون مساحة سيطرته أصبحت ممتدة على نحو 100 ألف كيلومتر مربع من المساحة الجغرافية لسورية، أي ما يوازي نصف مساحة البلاد، فيما يحتفظ النظام بالسيطرة على نحو 25% في الساحل والوسط والعاصمة. أما الباقي فإنه موزع بين الأكراد (5% في شمال شرقي سورية وشمال حلب) ومقاتلي الفصائل الإسلامية (نحو 20% في جنوب البلاد وشمالها وفي ريف دمشق).
تنظيم «داعش» موجود حاليا في محافظة الرقة باستثناء المدينة، وفي جزء من محافظة حلب باستثناء كوباني الكردية ومحيطها، إضافة الى وجود كثيف له في ريف حمص الشرقي من تدمر الى الحدود العراقية وفي ريف حماه الشرقي.
2 ـ بالسيطرة على تدمر يكون تنظيم «داعش» قد نجح في الإمساك بـ «عقدة استراتيجية» في الوسط السوري قد تؤثر على مستقبل حركة بقية الفصائل المعارضة السورية التي تصنف بـ «المعتدلة»، وخصوصا «جيش الفتح» في القلمون الذي تشكل «جبهة النصرة» عماده الأساسي حيث بات منفذها الوحيد باتجاه الشرق السوري عبر جرود قارة حتى تدمر تحت سيطرة «داعش» الذي خاضت معه مؤخرا اشتباكات عنيفة لإخراجه من منطقة القلمون الغربي.
2 ـ السيطرة على تدمر تعيد إنتاج وإنعاش مشروع الدولة الإسلامية لـ «داعش». فالبادية السورية التي تتوسطها تدمر تملك حدود طويلة مع محافظة الأنبار العراقية التي كان قد سيطر هذا التنظيم على عاصمتها الرمادي قبل أيام، وبذلك تكون دولة الخلافة ممتدة من الرقة الى دير الزور والبادية السورية فالأنبار العراقية وجميعها مناطق تملك مخزونا هائلا من النفط والغاز.
4 ـ سيطرة تنظيم «داعش» على تدمر تعني تمكنه من الربط بين مناطق يسيطر عليها في شمال سورية ووسطها وشرقها وتهديد مدينة حمص وقطع شريان رئيسي لتنقل القوات السورية بين المحافظات وتقليص قدرتها على المناورة والتحرك.
5 ـ تدمر تجاور مطارين عسكريين: مطار دير الزور ومطار «تي فور» الذي يؤمن حوالي 80% من الحركة الجوية في سماء سورية (طائرات سوخوي وميغ)، وحتى في حال عدم اقتحام هذا المطار فإن استهدافه سيعيق الإسناد الجوي ويؤدي الى تحييد قسم كبير من الطيران العسكري المؤثر جدا في مسار المعارك.
6 ـ مدينة تدمر تشكل حلقة وصل وسط البادية السورية تصل دمشق بدير الزور أي بمنطقة الجزيرة، كما تتوسط الطرق الرئيسية للمنتجات النفطية والفوسفات التي تمر عبر تدمر إلى حمص، كما تقع بالقرب من مناجم مهمة ومناطق النفوط والغاز، إضافة إلى أنها تمثل نقطة امتداد بادية الشام نحو العراق وسيطرة «داعش» عليها تعتبر خرقا ميدانيا مهما في الخريطة العسكرية الاقتصادية وتترك آثارا على المنطقة بشكل عام.
7 ـ تدمر لها أهمية رمزية وهي ذائعة الصيت دوليا كمدينة تاريخية أثرية. ولعل جانبا أساسيا من الاهتمام الدولي بمعركة تدمر يركز على هذه الناحية الحضارية والتاريخية. مدينة تدمر تعد من أمهات المدن التي كانت مركزا للقوافل عبر التاريخ البشري، وبلغت ذروتها السياسية والعسكرية والمعمارية في عصر الملكة زنوبيا، ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم إلى إدراجها على لائحة مواقع التراث العالمي منذ العام 1980، وهي من أهم المدن السياحية المشهورة عالميا بمعابدها ومدافنها ومسرحها وطريق الأعمدة وغيرها من المكونات المعمارية.
٭ خامسا: في أسباب تقدم «داعش» والعوامل المساعدة: تنظيم «الدولة الإسلامية» أصبح يسيطر على قلب الجغرافيا في كل من العراق وسورية، مع الإمعان فيما أسماه «كسر الحدود» بين البلدين، وتعميق الربط بين مناطق سيطرته على ضفتيها.
فقد سيطر على الرمادي وسط العراق وعلى تدمر وسط سورية ليربط بين البادية السورية وبين صحراء الأنبار، بعد أن ربط العام الماضي بين مدينة البوكمال في دير الزور ومدينة القائم التي تقابلها من الجانب العراقي. وهذا التقدم خالف سائر التوقعات التي سادت العام الماضي في أعقاب بعض الهزائم التي لحقت به وتحدثت عن قرب انهياره وعدم قدرته على تنفيذ هجمات واسعة.
ولم يخالف تقدم «داعش» التوقعات التي كانت تتحدث عن قرب انهياره فحسب، بل خالف أيضا جميع التقارير الإعلامية التي انتشرت مؤخرا حول أولويات التنظيم، وأنه أصبح يضع سورية في الدرجة الثانية من اهتماماته بعد العراق، حتى أن بعض التقارير تحدثت عن إرسال «داعش» ما يقارب سبعة آلاف مقاتل من سورية إلى العراق، معتبرة أن هذه الخطوة تشير إلى أن العراق بات هو أولوية التنظيم لا سورية.
ولم تكن تلك القدرة على التمدد إلا نتيجة عدة عوامل تضافرت في الوقت نفسه، فاستفاد منها التنظيم ليضاعف مناطق سيطرته في سورية. ويقول خبراء في شؤون التحليل العسكري إن التنظيم اختار تدمر لأنها خاصرة رخوة، منتهزا فرصة تهاوي النظام واستنزافه، ووجد فيه الطرف الضعيف بعد مشاهدة قواته منتشرة على كل الجبهات.
كما أن التنظيم إلى جانب هدفه الاستراتيجي الذي يتمثل بالوصول إلى حقول الغاز والسيطرة على مدينة تتمتع برمزية على المستوى الثقافي والإنساني، استفاد من تركيز ضربات التحالف الدولي في العراق بشكل أساسي، والذي بدت حركته مقيدة إلى حد ما في سورية.
وحسب هؤلاء فإن طائرات التحالف كانت ركزت ضرباتها أساسا في سورية قبل أن تتراجع وتيرة ضرباتها بعد انطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن، لافتين إلى ثغرة تمثلت في تركيز الضربات الجوية على المناطق الكردية دون الأخرى، وبدا التحالف الدولي أنه غير مكترث لنمو «داعش» في المناطق غير الكردية، على ضوء اكتفائه بتجهيز قوات من المعارضة السورية بعد فترة من الآن، ما يعني أن التعامل مع «داعش» داخل سورية من جهة التحالف، كان محدود النتائج، وهذا ما أبقى على دور «داعش» كلاعب مهم على الساحة السورية.
هذا الواقع، استثمره «داعش» لزيادة مساحة تمدده داخل سورية مستفيدا بالدرجة الأولى من انهيار المعنويات بصفوف السوريين الداعمين للنظام، والفرار الكبير من الخدمة، خصوصا في أوساط الطائفة العلوية، ما يجبره على الاعتماد على قوة خارجية لحمايته، كما أن النظام اليوم «منهك»، ومع فقدانه لمساحات جغرافية، يفقد قدرات اقتصادية تمكنه من تأمين الموارد العسكرية، ما ينعكس على تدني قدراته.